لم يعد الحديث عن خيارات ورهانات جديدة أمام الأمم والشعوب في عصرنا الراهن، الذي دشّنه النظام العالمي الجديد، أمراً مُضمراً أو خفياً· فلقد أخذت الأمور تتجه بأنحاء متعددة، منها ما يُراد منه أن يُفضي إلى إنهائها واجتثاثها· ومن شأن هذا الإشارة إلى أن الحكم على ظاهرة جديدة أو أخرى لم يعد يتطلب الانتظار أزماناً طويلة مديدة، لأن الأدلة على ذلك تنشأ تِباعاً وبكيفية متسارعة، مستندة في ذلك إلى قوة هائلة داعمة وآخذة في التعاظم· هذا الحال يظهر بوضوح على صعيد كيانات اجتماعية وإثنية وقومية وثقافية تعود أعمارها إلى مئات السنين، وهي الآن تجد نفسها أمام تحديات بل أحكامٍ بتعثّر حضورها وبالدعوة إلى إنهائها، بعد أن ''دلّلت على استنفادها'' تاريخياً، وخصوصاً أن تلك الكيانات في معظمها تعيش حالة من الاجتراء المثير·
وقد التقط هذه المسألة واحد من أساطين الفكر الاستراتيجي الغربي، وهو بريجنسكي· ففي كتابه الموسوم بـ''أميركا بين عصرين''، وضع يده على الخيار الوجودي التالي، الذي يُراد له أن يكون نعياً للأمم· قال معلناً إنه في الوقت الذي يسهم فيه التقدمُ على صعيد ثورتي المعلومات والاتصالات باتجاه زيادة الروابط بين الأمم، فإنه يسهم في الوقت ذاته في مهمة تتمثل فيما يلي: السّيْر حثيثاً باتجاه تفتيت هذه الأمم ومعها القوميات· وبهذا، يكون المبدأ العولمي الجديد قد أفصح عن نفسه بوضوح: توحيدٌ وتفتيتٌ، إنما توحيد تحت مظلة نظام مؤسس على السوق الكونية، وتفتيت في إطار مقتضيات هذه السوق وما يخترقها من مصالح عظمى تُمليها دواعي الهيمنة والسيطرة الأميركية·
وثمة ملاحظة تهمّ القول بعملية التوحيد والتفتيت تلك، وتقوم على إيجاد تقابل وتعارض بين القومية والعولمة من موقع التعارض والتقابل بين ''الكلمة'' و''الصورة''· فالكلمة، وفق ذلك، إن هي إلا تعبير عن مرحلة تتسم بضرورة وجود ''خطاب'' يجمع الأمة ويستحثها على المحافظة على الوحدة القومية بما يقود إلى الدفاع عن مصالحها كلاً أو جزءاً· ومن ثم، فإن الكلمة -حسب منطوق بريجنسكي الضمني والعمومي- تمثل ''روح الأمة''، و''تعبيراً'' عن ''رسالتها''· وإذا كان الأمر كذلك فيما يتصل بـ''الكلمة- الأمة''، فإن ما يتصل بـ''العولمة'' يصل إلى وحدة الكون، الذي سيتجلى من الآن فصاعداً في ''صورة'' واحدة أو في صور متعددة، كلما اتسعت وكثرت كانت تعبيراً أوفى عن السوق· إذ إن هذا الأخير -في بُعده العولمي- إنما يتمثل في كونه نمطاً واحداً موحداً لكل مظاهر الكون، مع تجليات كثيرة تمنح أصحابها هوياتهم·
في الالتقاء بين السوق والهويات التي تتجلّى فيها، تنشأ وحدة بين التّذرير والتوحيد· وفي هذه الحال، يدور الحديث على هويات منطلقة من آفاق السوق ومستحضراته ومنتجاته· ففي أحد الإعلانات المعروضة في بلدان عربية وأخرى غير عربية، تواجهك ''صورة'' كُتب عليها: هُويّتي شعري، وهويتي المسحوق الذي استخدمه في تزييني· وجدير بالإشارة أن طريقة تقديم الإعلان المذكور وغيره تستدعي أن يظهر الكون امتداداً لتلك الهوية· ومن الأهمية بمكان أن نضع يدنا على ما يراه كيسنجر في هذا الحقل المتعلق بوحدة الأمة وتفتيتها· فمن رأيه أن مطلب إعادة تكوين الأمة راهناً إنما يمر عبر خطوتين اثنتين: تفكيك الأمة المعنية إلى عناصرها التكوينية الإثنية، والذوبان أو الانصهار في مجموعات أكبر تنتمي إلى بقع جيوسياسية إقليمية· أما الثمن لذلك فيتمثل في ''الحفاظ'' على هذه الأمة، وهذا هو أقصى ما يُبذل في سبيل الأمة· وفي الحالتين كلتيهما، حالة بريجينسكي وحالة كيسنجر، تمارس ''الصورة'' دوراً كبيراً وفاعلاً·
إن برجينسكي وكيسنجر لم يعملا أكثر من إقناع ''شعوب الأطراف'' -وشعوبنا من ضمنها- على أن في الإذعان السلامة، وعلى أن ''الفضيلة في معرفة حدود المرء وإمكاناته''، دونما تبجح في أحلام ظهر أنها زائفة، وأن من صنعها يملك ''العالمين'': الثروة والسلطة· وفي هذا وذاك، تغدو الأهداف قريبة، وهي المتمثلة في الانصياع لمقولة غائبة في الفكر العربي الراهن، ولكنها أهم شواغله وإشكالاته الفاعلة· إنها المقولة المنطلقة من أن العالم الراهن يواجه نمطاً من الحضارة، التي لا يمكن الخروج منها وعليها، أي المنطلقة من المعادلة التالية: تكنولوجيا أميركية هائلة مدجّجة بثمار ثورتي المعلومات والاتصالات + عبقرية غربية ويهودية أو إسرائيلية + ثروات نفطية وغير نفطية عربية قد لا تنضب = الحضارة الجديدة· وهذه الحضارة ستكون، كما يبشر بها سياسيون ومثقفون عرب في المغرب والمشرق، ويُراد لها أن تكون إقلاعاً باتجاه السلام في العالم وباتجاه سعادة شعوبه·