قدمت الأيام الماضية إلى هؤلاء الأشخاص الذين يجدون متعة في المفارقات التي ترتبط بعالمي السياسة والتاريخ، مثالاً جديداً تختلط فيه الحلاوة بالمرارة· ففي السادس عشر من نوفمبر، قامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ''اليونسكو'' بالاحتفال بالذكرى الستين لإنشائها، وذلك من خلال تدشين مؤتمر دولي في باريس· وهدف ذلك المؤتمر لم يكن متعلقاً فقط بالتاريخ، على الرغم من أنه قد تم تخصيص المزيد من الوقت لمشروع طموح يتعلق بكتابة تاريخ ''اليونسكو'' في جميع تجلياتها، وإنما كان متعلقا أيضاً بتشجيع التربويين والعلماء وغيرهم من المفكرين للدفع من أجل المهمة الكبيرة والحرجة في ذات الوقت، الخاصة بترقية المعرفة والفهم الدولي، والمشروعات الفنية، وترجمة الكتب الأجنبية، والتعرف على مواقع العالم الثقافية والتي تعتبر جميعها من دون استثناء جزءاً لا يتجزأ من مهمة المنظمة· ولكن الشيء الذي كان تحقيقه أهم من ذلك كله هو ما ورد في نص الوثيقة الأصلية الخاصة بإنشاء المنظمة وتحديداً الجزء الذي يقول ''نظراً لأن الحرب تبدأ في عقول الرجال، فإن عقول الرجال تحديداً هي المكان الذي يجب أن نبني فيه الدفاعات من أجل السلام''·
والمفارقة المتعلقة بهذا المؤتمر الذي يجري حاليا في قلب باريس واضحة· فعلى مسافة لا تزيد على 15 كيلو مترا فقط من مقر ''اليونسكو'' الأنيق الواقع في شارع ''بلاس دي فونتينوي'' تقع تجمعات ضواحي ''سيفر''، و''سان ديني''، و''سير سان''، حيث يمكن مشاهدة بقايا السيارات المحترقة، والمدارس المدمرة، ومطاعم ''ماكدونالدز'' المحروقة والمنهوبة·
وعلى الرغم من أن هناك حادثاً معيناً وقع في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي (مصرع طالبين من أصول أفريقية فرا من الشرطة وحاولا الاختباء في محطة قوى كهربائية خطرة) كان هو الذي أشعل شرارة الاضطرابات التي عمت مختلف أنحاء فرنسا، فإن الحقيقة هي أنه كان هناك العديد من المؤشرات المبكرة على احتمال وقوع مثل هذه الاضطرابات· لا يبدو بعد رؤية تلك المشكلات أن هناك دليلاً ما في فرنسا على ما يؤكد عليه دستور اليونسكو من مبادئ مثل ''التضامن الفكري والمعنوي بين البشر''، أو ''تعليم البشر من أجل العدالة والحرية والسلام''·
وفي الحقيقة أن هذا الشهر لم يكن جيدا لأنصار الانفتاح الدولي، والأسواق الحرة· ففي الوقت الذي كانت فيه السيارات تُقلب وتحرق في ضواحي باريس، كان هناك عشرات الألوف يخرجون إلى شوارع الأرجنتين خلال قمة الأميركتين للاعتراض على فكرة تطوير حرية التجارة، وللتعبير عن غضبهم من هذا الشخص الذي يحبون أن يكرهوه دائما، وهو رئيس الولايات المتحدة الأميركية·
وفي مشهد مناقض ومحرج في الحقيقة للإدارة الأميركية صفقت تلك الجموع بحماس شديد لعدو أميركا اللدود حاليا في أميركا اللاتينية وهو الرئيس الفنزويلي ''هوجو شافيز'' الذي استغل زيارته للأرجنتين كي يشجب ''إمبريالية اليانكي''· وفي الحقيقة أن إرسال بوش إلى الأرجنتين كي يواجه هذا المأزق يعتبر واحداً من أسوأ القرارات المرتبكة التي اتخذتها الإدارة الأميركية في الآونة الأخيرة في مجال الدبلوماسية الشعبية الرامية لتحسين صورة أميركا·
بيد أن ما يبدو لي أكثر أهمية من كلمات شافيز النارية ضد الولايات المتحدة والتي كانت شيئا متوقعا، هو الأدلة التي توافرت على عمق واتساع المخاوف من نمط الرأسمالية الغربية، ومظاهر الامتعاض والسخط ضد عمليات الإقصاء والبطالة التي نتجت عن (أو على الأقل التي يخشى أن تنتج عن) المنافسة الأجنبية، وامتلاك الشركات المحلية، والغضب من فقدان حقوق العمل·
بيد أن عالمنا -عندما نتمعن فيه عن قرب- ليس مسطحاً تماما على الإطلاق· فلا تزال هناك حتى الآن بقاع مضيئة على ظهر كوكبنا الأرضي، كما لا تزال هناك مدن مثل سنغافورة ودبلن ونيودلهي تجعلنا نشعر بالثقة في مستقبلنا· بيد أن إحساسي العام مع ذلك هو أنه وعلى امتداد بقاع واسعة من الأرض، هناك زيادة ملحوظة في نسبة القلق البشري·
وسواء كان هذا القلق متعلقاً بعمال صناعة السيارات الأميركيين، أو المزارعين الفرنسيين المهمومين بشأن مستقبل عائلاتهم، أو بالشباب الذين صحوا من الأوهام في المدن الداخلية في الغرب، أو قلق الناخبين الذين يحسون بالإحباط في دول آسيا الوسطى وغيرها، أو الذين أجبروا على اعتناق الراديكالية في أميركا الجنوبية، فإن زماننا الحالي لا يبدو على ما يرام·
وفي مثل هذه الأيام القاتمة القلقة نجد أن نزعاتنا الإنسانية توجهنا نحو لوم ''الآخرين'' وإلى أن نشير بإصبع الاتهام إلى''الأجنبي''· لم يعد يهم كثيرا أن يكون المسؤولون هم الصينيون الذين يصدرون السلع بأسعار أقل من أسعار التكلفة، أو الأميركيون الذين يريدون تفكيك المجتمعات الزراعية الأوروبية، أو جماعات الشباب الإسلامي الساخط في الضواحي الأوروبية، لأن الحقيقة هي أن جميع هؤلاء يهددون نمط حياتنا· ثم أين هم القادة السياسيون القادرون حقا على تجميع القوات وإغلاق الحدود لتنفيذ السياسات القومية الحقيقية؟