''كل ما يعتبر جيدا للبلد، هو أيضا جيد لجنرال موتورز والعكس صحيح'' هكذا صرح ذات مرة الرئيس السابق لشركة جنرال موتورز· واليوم بعد تكبد الشركة لخسائر مالية فادحة تقدر بملايين الدولارات، وإعلان عزمها تسريح 30 ألف موظف يحق لنا أن نتساءل هل كل ما هو سيئ لجنرال موتورز هو سيئ كذلك لأميركا؟ مع الأسف يقفز الجواب سريعا وجاهزا: نعم· وبالرغم من التعليقات الكثيرة التي يطلقها الخبراء والمختصون محاولين تفسير الضائقة التي تمر بها جنرال موتورز، إلا أنها في عمومها لا تساعد في شيء، بل هي عبارة عن تصريحات تشوبها نبرات تحسر واضحة على ما كانت عليه الشركة في الماضي وما آلت إليه في الحاضر دون اقتراح علاج ناجع يعيد للشركة عافيتها وينتشلها من كبوتها الحالية· والأدهى من ذلك هو نبرة التشفي التي يمكن رصدها في تعليقات بعض المحافظين كما لو أنهم مسرورون لرؤية العمال المنضوين تحت لواء النقابات العمالية يسرحون من وظائفهم·
ولست هنا بصدد الدفاع عن شركة جنرال موتورز والمنافحة عن جميع قراراتها السابقة، كما أنني لا أساند كل تلك المطالب التي ينادي بها ''اتحاد عمال السيارات'' في الولايات المتحدة· غير أن ما تشهده الشركة من تسريح مكثف لعمالها يؤشر على ضعف عام يعتري القطاع الصناعي الأميركي، لا سيما تلك الصناعة التي تكفل للعمال دخلا كريما وامتيازات محترمة، حيث يمكن الإشارة إلى اختلالين رئيسيين يمسان الاقتصاد الأميركي أولهما نظام متهالك للرعاية الصحية تنقصه الفعالية، وثانيهما عجز متنام في الميزان التجاري الأميركي· وفي هذا الإطار تشير تقديرات الخبراء إلى أن جنرال موتورز أنفقت السنة الماضية على الرعاية الصحية 1500 دولار عن كل سيارة تقوم بتصنيعها، في حين لم تنفق شركة تويوتا على الرعاية الصحية سوى 201 دولار عن كل سيارة في وحداتها الإنتاجية بشمال أميركا، و97 دولارا فقط في مقرها باليابان· لذا لو كانت الولايات المتحدة تتوفر على نظام وطني للتأمين الصحي لما ساءت الأمور بهذا الشكل بالنسبة لجنرال موتورز·
لكن مهلا ألا يرقى نظام التأمين الصحي الذي يموله دافع الضرائب الأميركي إلى مرتبة الدعم المباشر لصناعة السيارات في أميركا؟ لا، ليس الأمر بتلك الصورة ذلك أن معظم الأميركيين يعتقدون أنه من حق جميع المواطنين الاستفادة من الرعاية الصحية في الشركات والمعامل لأنهم يدفعون مخصصاتها من جيوبهم في شكل ضرائب· ومع الأسف يساهم النظام السياسي في تكريس هذا الترابط الخادع بين الوظائف والرعاية الصحية ما يؤدي في النهاية إلى إلحاق ضرر بالغ بالاقتصاد من خلال عدم التشجيع على خلق المزيد من فرص العمل، خصوصا الوظائف التي توفر امتيازات جيدة للعمال بما في ذلك الرعاية الصحية· وبما أن الأميركيين لا يدفعون في واقع الأمر مصاريف الرعاية الصحية من جيوبهم كما يسود الاعتقاد، فإن الأمر ينتهي بدفع أحدهم مخصصات الرعاية الصحية· وحتى عندما تقوم جنرال موتورز بتسريح العديد من العمال أملا في التخفيف من أعباء الرعاية الصحية التي توفرها للعمال والتحسين من تنافسيتها في السوق العالمية فإن تلك الأعباء تُلقى في النهاية على كاهل دافعي الضرائب الأميركيين· وفي بعض الأحيان تستمر أسر العمال الذين تم تسريحهم في الاستفادة من الرعاية الصحية، في حين أن البعض الآخر يستفيد من إعفاءات صحية تشمل الحالات المستعجلة وهي مصاريف يدفعها الأميركيون كجزء من الضرائب· أضف إلى ذلك أن جنرال موتورز تضطر إلى مسايرة التكاليف العالية للرعاية الصحية في أميركا نظرا إلى النظام غير الفعال والمعقد المعمول به في الولايات المتحدة· والمفارقة العجيبة هي أنه رغم عدم توفرنا على نظام وطني للتأمين الصحي، إلا أننا ننفق على الشخص الواحد أكثر مما تنفق بعض الدول العريقة في مجال الرعاية الصحية·
أما فيما يخص عجز الميزان التجاري فلم يعد خافيا أن أميركا هذه الأيام تستورد أكثر مما تصدر بعدما فاق العجز التجاري خلال السنة الماضية 600 مليار دولار· ويعكس هذا العجز التحول الذي طرأ على الاقتصاد الأميركي الذي تخلى عن الصناعات المصدرة وركز في المقابل على الصناعات غير المنتجة كالعقار· وهو التحول الذي برز منذ سنة 2000 حيث فقدت أميركا حوالي ثلاثة ملايين منصب عمل في المجال الصناعي، في حين ارتفعت نسبة الأعضاء المشاركين في الجمعية الوطنية للوسطاء العقاريين إلى أكثر من 50%· بيد أن هذا العجز الواضح في الميزان التجاري لا يمكن التعايش معه إلى الأبد· فإذا كنا قادرين في هذه اللحظة على التعامل مع العجز التجاري، فذلك راجع إلى ما تقدمه الحكومات الأجنبية من قروض كبيرة تسهم في دفع عجلة الاقتصاد الأميركي· لكن مع مرور الوقت ستتوقف تلك القروض عن التدفق على أميركا ما سيضطرها إلى الاعتماد على سيولتها الذاتية لتمويل اقتصادها· وبالطبع لن يتأتى ذلك ما لم توجه أميركا اقتصادها نحو التصدير ما سيعني استقطاب العديد من العمال لتشغيل الصناعات المختلفة· وبالتالي فإن ما قامت به جنرال موتورز من تسريح كبير للعمال سوف