هذا كتاب يمكن القول إنه ينتمي إلى دائرة الكتب العلمية المتخصصة، وإلى حقل دراسة التاريخ اللغوي تحديداً· وكما نعلم فقد عقدت بعض مفردات وتعابير اللغات وألغازها، ألسن أكثر الكتاب والأدباء فصاحة في تاريخ الإبداع الأدبي· من ذلك مثلاً ما أشكل على كاتب كبير مثل مارك توين فهمه في اللغة الألمانية من ناحية تذكير وتأنيث الأسماء والمصادر، مثل أن تكون العبارة الألمانية المقابلة لـ''آنسة شابة'' محايدة نحوياً بحيث لا تكون مذكراً ولا مؤنثاً، في حين تكون عبارة كلمة مثل خضار ''اللفت'' مؤنثة! والسؤال الطبيعي الذي يتبادر إلى الذهن هو إن لم تكن كلمة ''شابة'' مؤنثة في اللغة الألمانية، فمن وماذا يكون المؤنث أصلاً؟! وماذا تكون الأفعال التي تتبع هذه العبارة من حيث التأنيث والتذكير والحياد؟ تلك هي الأسئلة التي دفعت جاي دويتشر مؤلف هذا الكتاب وأستاذ علم اللغويات بجامعة ''ليدن'' بهولندا إلى تناول ظاهرة اللغة من حيث نشأتها وتطورها من منظور تاريخي مقارن، بين مختلف لغات العالم الغربي الأوروبي، مع قليل من المقارنات والاستشهادات ببعض الأمثلة من اللغات الشرقية·
ومن بين مفارقات اللغات وغرائبها أيضاً، أنها تعد الاختراع البشري الأهم على الإطلاق -مع استثناء واحد مهم هو أنها لم ''تخترع'' أصلاً! وهذه العبارة هي نقطة البداية التي انطلق منها بحث المؤلف ورحلته العلمية الطويلة في جوف تاريخ اللغات وبدايات نشأتها وخط تطورها· ومن بين ما حدثنا عنه في تلك المراحل المختلفة، أنه ما من أحد منا سيصدق أن مجلس الشيوخ الروماني قد عقد عدة جلسات يوماً، ليخرج منها بذلك النظام اللغوي المعقد، الذي أصبح يطلق عليه اليوم علم قواعد اللغة اللاتينية· كما لا يؤمن إلا قليلون جداً منا اليوم حرفياً بوجود ما ساد الاعتقاد عنه في العقل الجمعي الأسطوري عن وجود فعلي لبرج بابل·
واعتماداً على آخر تطورات ومستجدات الأبحاث في مجال علم اللغويات الحديث، استطاع المؤلف الأخذ والرد في الكثير من العناصر والمعتقدات الوهمية الأسطورية التي أحاطت بنشأة وتطور اللغات، مقدماً بدلاً منها صورة أكثر دقة وموثوقية عن كيفية نشأتها وتطورها، فضلاً عن اضمحلالها واندثارها· وفي إطار رحلة البحث هذه، يناقش المؤلف ويستقصي ظواهر التعقيد اللغوي من مراحل جد بدائية ومبكرة في تطور اللغات، ابتداءً من عبارة ''أنا طرزان'' التي ينطقها إنسان الغاب بقواعد وتراكيب نحوية جد بدائية، وصولاً إلى مستوى التطور المذهل الذي بلغته اللغات المعاصرة المستخدمة اليوم، بما في ذلك قدرتها على التعبير عن أدق المشاعر والأفكار الإنسانية وأعقدها·
كما استطاع المؤلف أيضاً استقصاء ظاهرة الترافق والتوأمة المستمرة ما بين عمليتي الهدم والبناء في الحقل اللغوي، باعتبارها قانوناً عاماً يحكم تطور اللغات واندثارها في مختلف الحقب والعصور التي مرت بها البشرية· والعنصر الأكثر أهمية في عملية الهدم والبناء اللغوي هذه، أنها التربة التي تتوالد فيها كلمات اللغة ومفرداتها، فتزدهر أو تندثر حسب قدرة اللغة المعينة على البقاء والانتشار والاغتناء بالمفردات الجديدة في بيئتها الاجتماعية التواصلية الحية·
وفي دراسة بهذه الطبيعة، فمن المفهوم أن يكرس الباحث جهوده في دراسة ما هو أساسي في تاريخ الفصاحة والإبانة اللغوية، بدرجة أعلى من التركيز على أساليب التخاطب والتواصل الأساسية داخل المجتمعات وفيما بينها· ومن بين القضايا الأساسية التي تناولها الكاتب، دراسته لنظام الكلمات وتسلسلها داخل الجملة، وتحول معاني الألفاظ والمفردات والتعابير داخل اللغة الواحدة، إلى جانب دراسة مختلف الوسائل والعمليات التي تتوالد بها اللغات وتغتني بالمفردات، إضافة إلى مقارنة النظامين الصرفي والهجائي بين أكثر من لغة عالمية· وفي سبيل هذه المقارنة، فقد كان ضرورياً للباحث أن يستخدم مجموعة من العائلات اللغوية ذات الخصائص المتشابهة، بغية توضيح جوانب الاختلاف والتشابه فيما بينها· ولهذا السبب فإن شروح وحواشي الكتاب وحدها، تقف دليلاً على صعوبة المادة التي تناولها، ومدى تفصيله وغوصه في موضوع البحث·
ومما ناقشه المؤلف في بحثه هذا، الاتجاه أو الخط التطوري للغات، وقدرة البنى اللغوية على الانتقال من السهل البسيط، إلى المعقد والصعب، مهتدية في ذلك بمبادئ ومقاصد عامة تكاد تكون مشتركة بين كافة العوائل اللغوية المستخدمة حاليا، يمكن تلخيصها في ثلاثة عناصر أساسية هي اقتصاد اللغة، وقدرة اللغة على الإبداع والابتكار والتوالد، إضافة إلى عنصر التشبيه والمجاز اللغوي· والمقصود بالاقتصاد اللغوي، قدرة اللغات على الاختزال والإدغام وإسقاط الثقيل من الأصوات والتصريفات اللغوية، لجعل النطق أسرع وأسهل على اللسان· من ذلك على سبيل المثال شهر أغسطس في اللغة الفرنسية، الذي ينطق اليوم بصوت "oo" مع العلم بأن الأصل اللاتيني الذي انحدرت منه كلمة tsuguA تعود أصلاً إلى القائد الروماني ''أوغسطوس'' الذي استمدت منه الكلمة· أما عنصر الإبداع والابتكار فغالباً م