حفلت بنود الإعلام العربي هذا الأسبوع بأخبار الجولة الثانية للانتخابات المصرية، وكذلك تجاوزاتها من عصبية ضيقة الأفق، وبلطجة صريحة، وكذلك شراء الأصوات· وإذا كانت النظرية الديمقراطية تؤكد أن الانتخابات من أهم مؤشرات التحول إلى الديمقراطية، فإن تجاوزاتها الخطيرة تجعلها في نفس الوقت مؤشراً مضلّلاً، وبالتالي تثير هذا الموضوع الذي يرتبط بحياتنا اليومية: وهو كيفية الانتقال إلى الديمقراطية في منطقتنا، وما إذا كنا نواجه بالفعل ما يسمى بـ''الاستثناء العربي''؟ وتقول هذه النظرية باختصار شديد إننا عندما ننظر إلى العالم ككل وتطور أنظمة حكمه، نلاحظ -باستثناء المنطقة العربية- استمرارية المد الديمقراطي وانحسار الأسلوب السلطوي· وقد تطور هذا المد الديمقراطي وانتشر خلال أربع موجات أساسية:
الموجة الأولى في الفترة 1828-1926 وهي التي أرست في الواقع دعائم النظم الديمقراطية الحديثة وخاصة في دول عريقة مثل بريطانيا أو فرنسا وغيرهما من الدول الأوروبية، أو في تفرعاتها السكانية التي هاجرت إلى مناطق مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، أو حتى في أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين·
ولكننا نعرف أيضاً أن هذه الموجة الأولى قد أصيبت ببعض الانتكاس حتى في بلاد أوروبية عريقة مثل ألمانيا، التي شهدت سيطرة النازية في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكذلك إيطاليا التي شهدت وصول الفاشية مع موسوليني في نفس الفترة تقريباً· والموجة الثانية أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، وفرض نظام ديمقراطي ليبرالي على المنهزمين خاصة ألمانيا واليابان· وبالرغم من أن هذه الموجة الثانية أصيبت بانتكاسة أيضاً خاصة في بعض دول أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي، إلا أن المد الديمقراطي استمر إلى أن أصبح راسخاً· فاليابان وألمانيا لا تزالان ديمقراطيتين في منتهى القوة وتزدادان ازدهاراً، كما نرى مثلاً هذا اليوم في اختيار أول مستشارة ألمانية لرئاسة الدولة، وفي اليابان تتحرر الأسرة الإمبراطورية من القيود وتتزوج بناتها من عامة الشعب· وانتشرت الديمقراطية أيضاً إلى دول كبيرة مثل الهند التي يقترب سكانها من خُمس سكان العالم·
والموجة الثالثة، تمتد من 1974 إلى نهاية الحرب الباردة في ،1989 وتتميز أساساً بعودة الديمقراطية إلى الجنوب الأوروبي، خاصة في البرتغال وأسبانيا واليونان، فقد انتهت ديكتاتورية سالازار وفاشية فرانكو واندحر الحكم العسكري في أثينا· كما شهدت هذه الفترة إرهاصات التململ وحتى التمرد في دول أوروبا الشرقية الواقعة تحت هيمنة الاتحاد السوفييتي والشيوعية الدولية·
الموجة الرابعة وهي المعاصرة لنا الآن، وقد ظهرت بوضوح داخل الكتلة الاشتراكية عن طريق ثورة المجتمع المدني وانتشارها كالفيضان الجارف حتى داخل الاتحاد السوفييتي نفسه، والتي أدت إلى انهياره تماماً في سنة 1991 ونهاية الحرب الباردة· وبالرغم من أن دول أوروبا الشرقية هذه بما فيها روسيا لا تزال تعاني مخاض التحول الديمقراطي، فإنها بدأت هذا الطريق الوعر، ولكنه طريق المستقبل، وقد تُصاب بتعثرات وحتى انتكاسات هنا وهناك، ولكن طريق التحول الديمقراطي مستمر لا رجعة فيه·
أين المنطقة العربية من كل هذا؟ هل هي على استعداد لأن تكون جزءاً من الموجة الرابعة مثل جنوب أفريقيا مثلاً؟ أم أنها ستنتظر الموجة الخامسة أو السادسة أو حتى تنتظر جماهير هذا الشعب إلى أبد الآبدين؟ بالطبع للإجابة على هذا السؤال المهم، يلزم أن نأخذ معظم الأقاليم العربية على حدة، لأنه يصعب التعميم، فحالة لبنان تختلف عن اليمن مع أن الدولتين جمهوريتان، كما أن دول الخليج تختلف عن المغرب رغم تشابه نظام الحكم· ولكن الأدب السياسي العالمي والعربي يتفقان الآن على أنه باستثناءات قليلة جداً فإن المنطقة العربية لم تقطع مسافة طويلة على طريق التحول الديمقراطي، وأنها تتميز على الأكثر بالتعددية بسبب وجود الأحزاب السياسية مثلاً، وقد يؤدي هذا إلى ديمقراطية شكلية، تختلف جد الاختلاف عن الديمقراطية الحقيقية· فهذه الأخيرة تتميز بتداول السلطة بين الجماعات والأحزاب المختلفة، ومحاسبة ومساءلة المسؤولين، وشفافية العملية السياسية، واستقلال أجهزة الإعلام، ثم وجود ثقافة سياسية قائمة على التسامح واحترام الاختلاف في الرأي، ومن غياب هذه المؤشرات يلازمنا ''الاستثناء العربي''·