لم يتوقف الحديث عن انسحاب قوات الاحتلال من العراق لحظة واحدة منذ وقوعه في أبريل2003 وحتى الآن، بل إن نبرته آخذة في التصاعد كلما وضحت تداعيات الاحتلال الأجنبي على الوضع في العراق وجرائم قواته التي طالت حقوق الإنسان فيه، وكذلك كلما ازدادت المقاومة الوطنية قوة وصلابة· ينطلق الداعون للانسحاب من مرتكزات قانونية وسياسية تستند إلى قواعد القانون الدولي التي لا تجيز الاحتلال الأجنبي والقرارات الدولية التي تسير في الاتجاه نفسه، والأهم من ذلك أنهم ينطلقون من واقع سياسي يشي بالكوارث التي شهدها العراق بسبب الاحتلال الذي أخفق في أن يفي بالعراق الذي وعد: ساحة للديمقراطية والاستقرار وواحة للازدهار والرخاء·
غير أن المعترضين في الساحتين العربية والعراقية على انسحاب قوات الاحتلال من العراق كثيرون، وجلهم من العرب والعراقيين الرسميين ومنطقهم يستند إلى أن أوان انسحاب هذه القوات لم يأتِ بعد، لأن العراق لما يستكمل بناء مؤسساته العسكرية والسياسية والأمنية، وإلى أن يحدث هذا فسوف يبقى بحاجة ماسة إلى بقاء قوات الاحتلال وإلا أصبح عرضة لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، ولذلك فإن حل المعضلة الراهنة في العراق هو العمل على إعادة بناء هذه المؤسسات بما يمهد لحلول القوات المسلحة وقوات الأمن العراقية محل قوات الاحتلال، ولن يحدث هذا إلا من خلال وفاق وطني يمهد الساحة العراقية لتحقيق انسحاب تدريجي من العراق·
يصعب في هذا الإطار القبول بمنطق المدافعين عن بقاء قوات الاحتلال في العراق، فالعراق يشهد بالفعل درجة عالية من درجات عدم الاستقرار وانعدام الأمن في ظل وجود قوات الاحتلال التي تبدو عاجزة حتى الآن عن أن تقوم بدور مفيد استراتيجياً في هذا الصدد، ولذلك فإن القول بأن وجود هذه القوات يحمي العراق من حرب أهلية يبدو بلا معنى· صحيح أنه من غير الممكن تكييف ما يجري في العراق بأنه حرب أهلية لأن واقع الأمر أن جل ما يحدث في العراق يعكس الصراع بين الاحتلال الأجنبي والمقاومة الوطنية، لكن المعنى الوحيد لإخفاق قوات الاحتلال في تحقيق الاستقرار في العراق حتى الآن أن التذرع بضرورة بقائها لحماية تماسك العراق واستقلاله لا يستند إلى أي أساس واقعي ناهيك عن فقدانه لأي مسوغ قانوني·
بل إن الجميع يذكر أن الاحتلال هو المتسبب إلى حد كبير في الفوضى الضاربة في العراق الآن بسبب إصرار المسؤولين عنه على حل مؤسسات الدولة العراقية بما فيها مؤسستها العسكرية ومؤسساتها الأمنية غير مدركين للفارق بين النظام الذي سعوا إلى إسقاطه وأسقطوه بالفعل وبين مؤسسات الدولة التي لا يمكن أن تكون في كلياتها تعبيراً عن ذلك النظام وبالتالي تم تقويض أركان الدولة العراقية كآلية لتقويض نظامها الحاكم على طريقة قتل المريض بدلاً من إزالة أسباب مرضه· ولما كانت المقاومة الوطنية للاحتلال -أو على الأقل فصائل منها- تعتبر أن إعادة بناء مؤسسات الدولة العراقية وفي القلب منها المؤسسات العسكرية والأمنية في ظروف الاحتلال جزء لا يتجزأ من تحقيق استراتيجيته لمستقبل العراق فإنها بطبيعة الحال سوف تقاوم عملية إعادة البناء هذه بكل ما أوتيت من قوة، وبذلك يبقى العراق دائراً في حلقة مفرغة: فبقاء قوات الاحتلال مطلوب حتى تُبنى مؤسسات الدولة والقوى الرافضة للاحتلال لا توجه سهامها ضده فحسب، وإنما ضد عملية البناء تلك أيضاً، وبما أن هذه القوى تثبت جدارتها وقدرتها على التأثير يوماً بعد يوم فسوف تبقى ذرائع المدافعين عن بقاء الاحتلال إلى أمد غير منظور· هكذا يبدو وكأن الاحتلال بمساعدة أنصاره داخل وخارج العراق يعيد إنتاج نفسه، فأي مستقبل للعراق يريدون؟ ومن الطريف -أو بالأحرى من المؤلم- أن وزير الدفاع الأميركي قد أشار من طرف خفي إلى عملية إعادة إنتاج الاحتلال هذه حين صرح في الثامن عشر من الشهر الجاري بما يفيد بأن إعادة بناء القوات المسلحة وقوات الأمن في العراق لن يترتب عليها انسحاب للقوات الأميركية وذلك بقوله: ''مع تولي القوات العراقية مسؤولية أمن البلاد بشكل متزايد سيمكن تحويل القوات الأميركية إلى مهمات أخرى داخل العراق''·
وينقلنا هذا التصريح إلى نقطة أخرى نتذكر فيها أن الاحتلال الأميركي للعراق لم يتم بأي حال انطلاقاً من اعتبارات مثالية كالقضاء على نظام حكمه الديكتاتوري، فالعالم مليء بنماذج لحكومات ديكتاتورية مماثلة للحكم السابق في العراق أو حتى أسوأ منه ما زالت تنعم بالاستقرار في ظل الرسالة الأميركية الإنسانية لنشر الديمقراطية في العالم، أو التصدي لخطر امتلاك نظام حكم ديكتاتوري لأسلحة دمار شامل ثبت أنها لم تكن بحوزته بكل الطرق··· إلى غير ذلك من المبررات المثالية، وإنما وقع الاحتلال بسبب مصالح أميركية محددة بغض النظر عن الجدل حول ماهية هذه المصالح، فالدول عبر التاريخ-وليس الولايات المتحدة الأميركية وحدها- تنطلق في سلوكها الدولي من مصالحها الواقعية وليس من معتقداتها المثالية، ولذلك فإن القول بأن الإدارة الأميركية يتعين عليها أن تطمئن أولاً على أن العراق بخير