قضيت أسبوعا في المملكة العربية السعودية مع وفد مكون من مجموعة من الإخوة الأكاديميين وأساتذة من مختلف الجامعات في الإمارات وبعض رجال الأعمال والإعلام··
الزائر للمملكة يستطيع أن يقرأ بعين فاحصة ودقيقة، أن ''شيئا ما'' يحدث في المجتمع السعودي·· ربما يحلو للبعض إطلاق صفة ''تغيير ما'' على هذا ''الشيء'' الخفي، وربما يقول قائل إنه ليس ''تغييراً''، ولا حتى ''بداية تغيير''، ولكنه حذر عام في مواجهة ما أفرزته الهجمة الإرهابية الشرسة التي واجهها المجتمع السعودي خلال الشهور القليلة الماضية، والتي واجهها المجتمع بكافة أطيافه بحزم وشدة·
ولكن لا يخفى على الزائر المتفحص من بعيد، أن ''شيئا ما'' بدأ بالتحرك في جسد المجتمع هناك·· وأن هذا التحرك شمل غالبية فئات المجتمع·· فمن خلال جلسات الحوار والنقاش مع عدد من المثقفين والأكاديميين وأساتذة الجامعة، ومقارنتها بالنقاش مع الفرد السعودي الذي يطلق عليه مجازا ''رجل الشارع''، يستطيع المتتبع، وخاصة من سنحت له فرص زيارة المملكة من قبل، أن يلحظ أن هناك صراعاً خفياً بين ثلاث فئات متفاوتة في اتجاهاتها وسلوكياتها الفكرية··
الفئة الأولى: هي الفئة التي تمثل التيار السلفي·· وهذه الفئة، التي ما زالت هي التي لها اليد الطولى في كثير من المواقع وما زالت ترفض أي شكل من أشكال التحاور، إلا فيما ندر مع بقية الفئات، ترى نفسها في بداية محنة حقيقية· فأغلب أصابع الاتهام موجهة إليها بأنها البيئة الأكثر خصوبة لنشأة الفكر المتطرف·· وعلى الرغم من حالة ''الانحسار'' الظاهر وبداية ''عزلة''، إن صح التعبير، التي بدأ يدخل فيها هذا التيار، إلا أن من الصعوبة بمكان الجزم بأن المجتمع قادر على التخلص كليا من الوصايا التي يفرضها على كثير من القطاعات الحيوية في المجتمع·
الفئة الثانية: هي الفئة التي تمثل التيار الليبرالي·· وهذا التيار، الذي مازال يحبو، له أنصاره ومؤيدوه·· ولكنه سيبقى، في مجتمع عاش عقودا من الزمن تحت وطأة الفكر السلفي المنعزل، تيارا يتيم الأبوين، لا هوية واضحة له، وقد تسبب أفكاره حربا أهلية في المجتمع· كما قال لنا الأستاذ تركي السديري رئيس تحرير صحيفة ''الرياض'' في جلسة حوارية معه·
وهذا التيار يدعو المجتمع السعودي إلى التحول السريع وتغيير جلده بين عشية وضحاها، وترك كل ما هو موروث ومخزون في الأفق الفكري للفرد والمجتمع، والانتقال إلى حالة ربما يرفضها اليوم حتى بعض المؤيدين للأفكار الانفتاحية في المجتمع السعودي·· ولكن لغة التخاطب لهذه الفئة لا تختلف كثيرا عن لغة التخاطب لدى الفئة المتزمتة الأولى، ويغلب عليها سؤال: ''كيف نتصارع؟''··
الفئة الثالثة: وهي الفئة التي لا نستطيع أن نطلق عليها تسمية معينة، لأنها في الحقيقة لا ترتدي ثوبا فكريا معينا، ولكنها هي الفئة الأكثر مرونة وواقعية من التيارين السابقين·· ونستطيع القول إن لغة الحوار الذي يطرحه هذا التيار تتجه أكثر صوب السؤال: ''كيف نتعايش؟''·· عوضا عن ''كيف نتصارع؟''·· وهي فئة تمثل تيارا يدعو إلى التغيير المنهجي·· فهي ترفض الفكر السلفي المتزمت، وتنبذ التطرف والغلو وسيطرة فئة معينة على مقدرات المجتمع باسم الدين، ولكنها في الوقت ذاته ترفض الانجراف خلف الشعارات الليبرالية التي قد تخلق صداما لا يعلم مداه إلا الله·