ما زالت مشاهد العنف الدامي تجتاح العراق، ومع كل يوم يمر يسقط المزيد من الضحايا الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أن حظهم جعلهم موجودين بالصدفة في وقت ما، وفي مكان ما، يكون الإرهابيون قد قرروا استهدافه، بغياً وعدواناً وخروجاً على كل الأخلاق والشرائع السماوية والبشرية· والصورة تتكرر عدة مرات في اليوم الواحد حول العراق وعلى مدار الساعة· ففي لحظة ما مفاجئة يقع الانفجار، وتتناثر الأشلاء على الإسفلت، وتتهاوى المباني المجاورة، وتشتعل النار، وماكينة القتل و''التفخيخ'' والتفجير دائرة بلا كلل للأسف الشديد، وكأنه ليس لهذا العنف الأهوج من نهاية، أو كأن قدر العراقيين أن يبقوا هكذا أسرى لجنون المهووسين بسفك الدماء، الذين لا يراعون في الأبرياء إلاً ولا ذمة· وكما كان متوقعاً أخذت نيران العنف المندلع في العراق منعرجاً جديداً بعد أن دخلت مرحلة ''التصدير'' لدول الجوار، التي شكلت هجمات فنادق عمّان بداية صاخبة، ومأساوية لها، حيث حصد ''مفخخو'' الزرقاوي وعنفه الأعمى عشرات المواطنين الأردنيين الأبرياء في عرس بسيط تحول فجأة إلى مأتم، في مؤشر بالغ الدلالة على أن دول المنطقة كلها باتت مستهدفة، وأن أمن واستقرار شعوبها بات واقعاً تحت تهديد تمدد ألسنة اللهب من الحريق المزمن المشتعل في بيت الجار العراقي· وهو ما يقتضي بكل تأكيد أن تبادر دول المنطقة إلى إعادة تسمية وتحديد الطريقة التي تعاملت بها مع المأساة العراقية طيلة السنوات الثلاث الماضية، والتي قامت أساساً على السلبية، أو النظر لمراقبة المشهد من بعيد·· فقط·
وفي هذه الأثناء ينعقد في القاهرة مؤتمر الوفاق العراقي، وبمشاركة أطراف عديدة من الطيف العراقي، بألوانه السبعة، ومع أن المؤتمر لم ينهِ أعماله حتى وقت كتابة هذه السطور، فإن ما سجل حتى الآن من مؤشرات خلال سريان جلساته لا يبدو مشجعاً، فقد بدأ المؤتمر بالانسحابات الجماعية احتجاجاً على عبارة وردت في كلمة هذا المتحدث أو ذاك، وبدأ التراشق مبكراً، وعادت تهم الانتماء إلى حزب البعث المنحل، والعمالة للخارج، والداخل، والسعي إلى الاستئصال والإقصاء، إلى آخر ما هنالك، مما لا يزيد الوضع إلا تعقيداً، ومما يسحب البساط من تحت إمكانية انتهاز فرصة هذا المؤتمر اليتيم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من البقية الباقية من مصلحة ومستقبل الشعب العراقي· ومشكلة بعض القيادات العراقية فيما أرى تكمن في وقوعها في أسر الماضي، أكثر مما يجب· فمن يريد دفن مرحلة حكم البعث لبلاد الرافدين، يفترض أن يهيل عليها التراب وينساها إلى الأبد، وينطلق من ذاكرة جديدة، لا أن يعمد إلى النبش في الذاكرة وإعادة طرح مسألة البعث وماضيه، خاصة إذا كانت أطراف أخرى جالسة على الطاولة تفهم أن المقصود من إثارة مسألة الانتماء إلى البعث هو تحجيم دور قطاعات واسعة من السنة العرب، مثلما كانت سياسة اجتثاث البعث وسيلة لإقصائهم واستبعاد الكثيرين منهم·
إن ضغوط اللحظة الآن في العراق، وإلحاح ضرورة إطفاء الحرائق أولاً، يفترض ألا يملك معهما الزعماء والسياسيون العراقيون المجتمعون في القاهرة ترف تضييع الوقت في جدل لا يقدم ولا يؤخر حول الانتماءات القديمة، ولئن كان تدخل الجامعة العربية في عقد هذا المؤتمر أمراً يدعو للقلق، ويخشى معه ألا يخلو من أخطاء تنظيمية إلا أن مشاركة أطراف عربية من عدة دول ربما تكون هي صمام الأمان الذي نرجو أن يساعد العراقيين على التوصل إلى نتيجة إيجابية على طريق المصالحة العراقية، ونأمل أن يتمكن العراقيون من إنقاذ وطنهم، والدخول به في مسار التنمية المعطَّل منذ زمن، من أجل عراق الغد الآتي المزدهر الذي يستحقه العراقيون·