يخيل للمرء الذي يزور الولايات المتحدة هذه الأيام، أن الرأي العام الأميركي قد بدأ يتغيّر فعلاً في موقفه من الحرب في العراق· ففي حديثك مع بعض الأميركيين المنفتحين تلحظ نوعاً من الخجل من الحرب التي تقودها الإدارة في العراق· وهاك بعضاً من الأميركيين الذين يشعرون بأن تعاطف العالم معهم في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر قد تبخّر، بفعل السياسات الأحادية التي اتبعتها الإدارة الأميركية·
ويذكر أحدهم أن الحرب قد كلفت دافعي الضرائب أكثر من ثلاثمائة مليار دولار، وأن مثل هذا الرقم يمثل فعلاً حجم العجز السنوي في الميزانية الفيدرالية، وأن الولايات المتحدة بحاجة إلى تقديم العون والمساعدة لسكان لويزيانا وولايتي ألاباما وفلوريدا التي تعرضت لكوارث وأعاصير هذا الصيف (كاترينا وريتا)· وأن الأموال التي صرفت على الحرب في العراق كان من المفروض أن تصرف على إعادة إعمار المناطق الجنوبية المنكوبة في الولايات المتحدة نفسها·
وحين تقرأ الصحف اليومية تلحظ كذلك أن الرأي العام قد بدأ بالضغط على أعضاء الكونجرس أنفسهم، الذين كانوا قبل عامين متحمسين للحرب ضد صدام حسين، وإطاحته من السلطة والبحث عن أسلحة الدمار الشامل التي قيل إن العراق يمتلكها· أما اليوم فبعد أن ثبت أن تلك المقولة لم يكن لها أساس من الصحة، فإن الأساس الأخلاقي للحرب قد تبخّر بالفعل، حتى لدى الطبقة المثقفة والطبقة السياسية في البلاد· وقد ذكرت ''نيويورك تايمز'' مؤخراً أن زعماء الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، ومنهم السيناتوران ''ويليام فرست'' و''جون ورنر'' سيقدمون مقترحاً بإعطاء الجيش العراقي الوليد المزيد من المهام العسكرية في الحرب، وأن تقدم الإدارة تقريراً دورياً كل ثلاثة أشهر عن سير الحرب· ويأملون في أن إعطاء المهمات الصعبة للجيش العراقي سيخفف من حجم الضحايا والإصابات في الجيش الأميركي·
أما الديمقراطيون في المجلس، فإنهم يطالبون بأن تقدم الإدارة جدول انسحاب محدداً لعودة القوات إلى أرض الوطن· وقد زاد حماس الديمقراطيين بعد أن حققوا بعضاً من الانتصارات في الانتخابات الجزئية لحكام الولايات قبل أسبوع·
ويشتعل النقاش كذلك بين السياسيين والمثقفين حول جدوى البقاء في العراق· ولقد صدر العدد الأخير من مجلة ''السياسة الدولية''، وهي المجلة المؤثرة في الرأي العام، يحمل بين طياته مقالات متلاطمة حول جدوى بقاء القوات الأميركية في العراق· وتحمل المجلة عنواناً مثيراً للاهتمام، وهو مقارنة الحرب في العراق بحرب فيتنام· ويدافع وزير الدفاع الأسبق في حكومة نيكسون ''ملفن ليرد'' في مقالة له عن حرب العراق وحرب فيتنام، فيرى أن الولايات المتحدة قد خسرت حرب فيتنام لأن الكونجرس يومها لم يكن يرغب في استمرار ضخ الأموال في تلك الحرب، بعد أن فقدت الولايات المتحدة أكثر من خمسين ألفاً من أبنائها في فيتنام· لذلك فإن ''ليرد'' يرى أن على الرئيس بوش أن يستمر في الحرب في بغداد حتى يتم تحقيق النصر والقضاء على المقاومة الوطنية في العراق· أما الأستاذ ''جون مولر'' فيرى في مقال آخر له في المجلة نفسها، أن الحرب في العراق لم تعد تحظى بدعم شعبي، ففي بداية الحرب كان حوالى 75% من المستجوبين يرون أن الحرب كان لها ما يبررها، أما الآن فإن أقل من 50% من المستجوبين يرون أن الحرب ليس لها ما يبررها· ويقارن ''مولر'' بين هذه الإحصائيات وإحصائيات مشابهة لتوجهات الرأي العام في كل من حربي فيتنام وكوريا·
فعند بداية حرب فيتنام في منتصف عام ،1965 كانت نسبة 74% من الرأي العام الأميركي تساند تلك الحرب، وفي منتصف عام ،1972 وصلت نسبة المساندة إلى أقل من 30%· وكذلك الحال بالنسبة للحرب الكورية، ففي بداية تلك الحرب عام ،1950 كانت نسبة حوالى 76% من الشعب الأميركي تساند المجهود العسكري، وفي نهاية عام ،1953 انخفضت النسبة إلى حوالى 60%· ويرى ''مولر'' أن نسبة تراجع الدعم الشعبي للحرب في العراق كانت أسرع من تراجع ذلك الدعم لكل من حربي فيتنام وكوريا· ويصل الباحث إلى نتيجة تقول إن هذا التراجع كفيل بإنهاء الحرب في العراق وتخفيف -إن لم يكن سحب معظم القوات- بنهاية العام المقبل ،2006 إلا أن إدارة الرئيس بوش ترفض مثل هذه الاقتراحات حتى الآن·
ويرى ''مولر'' أن الحرب في العراق مثلها مثل حرب فيتنام تجد مقاومة عنيفة لا يمكن للقوات الأميركية احتواؤها بالعنف· وأن من النتائج المتوقعة لتلك الحرب، أن القوى المعارضة للولايات المتحدة في العالم الإسلامي ستكون أقوى مما كانت عليه في الماضي· وكذلك فإن الأعمال الإرهابية التي ستقوم بها ''القاعدة'' في المستقبل ستزداد· كما أن الشعب الأميركي لن يقبل في المستقبل بتكرار مثل هذه المغامرات العسكرية· كما أن الخسارة العسكرية للولايات المتحدة في العراق، ستعني أن شركاتها لن تكون قادرة على احتكار العقود النفطية في ذلك البلد· ومع أن الباحث يقارن بين قدرة الحكومة المؤقتة الحالية والحكومة العسكرية التي نصّبت في سايجون من قبل الولايات المتحدة، فإنه يعتقد أ