لقد عرف قراء هذه الصفحات، الكاتب الصحفي والمحلل السياسي ويليام فاف، من خلال مقالاته وتعليقاته الصحفية السياسية حول الأحداث العالمية والإقليمية الجارية، وسياسات الولايات المتحدة إزاءها· ولعل أكثر ما عرّفنا به، انتقاده اللاذع لإدارة الرئيس بوش وسياساتها إزاء العراق والشرق الأوسط عموماً· وفي تحليلاته عمق ونظرة فلسفية تتجاوز السطحي واليومي، إلى جوهر الأشياء وبنية منطقها الداخلي المحركة لها· ولكننا نلتقيه هذه المرة، كاتباً ومؤلفاً للعديد من الكتب، منها هذا الكتاب الذي نعرضه اليوم ''أغنية الرصاص: حول العنف الرومانسي والطوباوية''· وبالرؤية الفلسفية العميقة نفسها، يتناول الكاتب منحى العنف الثوري الرومانسي، عبر سيرة عدد من الكتاب والفنانين والمبدعين والمفكرين الغربيين من مختلف الحقب والعصور، حركتهم جميعاً مشاعر الحماس الوطني، والنزعة الثورية الرومانسية التي لا تخلو من الكثير من عناصر المثالية الخيالية· وعلى طريقة ''فاف'' المعهودة، فإنه إذ يعرض لسيرة هؤلاء المفكرين والمثقفين، فإنما يقدمهم عظة وعبرة تاريخية لقرننا الحالي، الذي اجتاحته آفة وجرثومة العنف السياسي والديني الذي تحركه كوامن ونوازع إرهابية تستهدف التغيير السياسي، وإن تكن منطلقات هذا التغيير بعيدة كل البعد عن تلك التي حركت الشخصيات التي تناولها ''فاف''، والأهداف التي سعت إلى تحقيقها· ومن وجهة نظر الكاتب، فإن جذور ذلك العنف الذي اجتاح القارة الأوروبية، بل والعالم بأسره في أغسطس من عام ،1914 إنما تعود إلى الحركة الرومانسية في الأدب والفن، وما تنطوي عليه من مفاهيم طوباوية تطهرية· ومن رأيه أيضاً أن لنشأة الاتجاهات والتيارات والأنظمة الشمولية ذات النزعة الثورية -سواء كانت الفاشية أم النازية أم الشيوعية- علاقة بالمفاهيم الرومانسية· ولكي يبرهن الكاتب على صحة هذه الافتراضات النظرية، فقد عمد إلى تناول سيرة حياة ونشاط الشخصيات الست التالية: تي· إي· لورنس الملقب بـ''لورنس العرب''، وهو كاتب وجندي بريطاني، عاش خلال الفترة من 1888 إلى ·1953 ومن أهم مؤلفاته ''أركان الحكمة'' و''الانتصار'' و''ثورة في الصحراء''· وإن كان قد حاز على لقب ''لورنس العرب''، فإن ذلك يعود إلى ارتباطه وعمله بالمتاحف العراقية أولاً، حيث امتد بقاؤه هناك حتى عام ،1914 لحظة اندلاع الحرب مع ألمانيا· عاد ''لورنس'' بعدها أدراجه إلى بريطانيا لفترة وجيزة، ليتم انتدابه منها إلى مصر، التي عمل فيها مبعوثاً للمخابرات العسكرية لبلاده· وكما هو معلوم في التاريخ، فقد شهد عام 1916 بداية الثورة العربية على الهيمنة التركية، وهو الحدث الذي استدعى سفر ''لورنس'' إلى المملكة العربية السعودية، ومتابعته ورصده لمسيرة التمرد عن كثب، فيما سجله في كتبه الثلاثة المشار إليها آنفاً· وعقب انتهاء الحرب الأولى، وعلى رغم انحياز ''تي· إي· لورنس'' لاستقلال الدول العربية، فإنه تم وضع كل من سوريا والعراق وفلسطين تحت الوصايتين البريطانية والفرنسية· وإلى أساليب وتكتيكات لورنس في الكر والفر وحرب العصابات، تنسب الكثير من الهجمات التي يشنها إرهابيو اليوم في تحليلات الكتاب الغربيين·
ثم هناك الكاتب والشاعر والروائي الألماني ''إرنست جنقار'' الذي بدأ حياته يمينياً متطرفاً شديد الكراهية للسامية في عقد عشرينيات القرن الماضي، لينتهي به الحال في عام 1939 إلى نقد الحركة الوطنية الألمانية التي قادت بلاده باتجاه النازية وشن الحرب العالمية الثانية، التي كان الكاتب أحد ضباطها ومقاتليها· وهناك أسطورة الشاعر والروائي والكاتب المسرحي الإيطالي ''غابرييل دوأنانزيو''، الذي عاش خلال الفترة 1863-1938 ومزجت سيرته ما بين الشعرية والأدب والبطولة العسكرية والتطرف السياسي والانحياز الأعمى للفاشية والترويج لأفكارها ومفاهيمها· إلى ذلك يدلف بنا الكاتب إلى عالم وحياة المثقف والصحفي الألماني ''ويلي موينزنبيرج''، الذي كرس جل حياته للدعاية الاشتراكية، مستخدماً في ذلك الصحف والمجلات والأفلام والمؤتمرات والسيمينارات وغيرها من الوسائل الكفيلة بنشر الماركسية والفكر الاشتراكي· وكان ''مويزنبيرج'' قد اضطلع بمعظم هذا النشاط في وطنه الأم ألمانيا، إلا أنه اضطر إلى مغادرتها لحظة صعود النازية، حيث استقر في باريس وواصل عمله الدعائي، حتى لحظة اغتياله المريب، إثر الاجتياح النازي لفرنسا· ثم يعرج الكاتب إلى سيرة الروائي والصحفي والناقد البريطاني الأصل ''آرثر كويستلر'' المجري المولد، الذي ذاعت شهرته بكتابه ''ظلام في عز النهار'' ·1940 وفيه يكشف ''كويستلر'' عن فك الارتباط بينه والشيوعية وعن ميلاده الأيديولوجي الجديد· وكان قد بدأ هذا الفصام في بواكير فترة الحرب الباردة بين المعسكرين، بانتقاده للتجربة الاشتراكية السوفييتية، وإعلان مناهضته لها·
ومع وصول الكاتب إلى شخصية الأديب والسياسي الفرنسي أندريه مالرو - الذي تولى منصب وزارة الثقافة الفرنسية في عهد الرئيس الأسبق ديجول 1959- وتناوله لتلك الحياة الثقافية و