القرصنة الحيوية في مفهومها الأساسي هي نوع من الاستغلال التجاري للمصادر البيولوجية المحلية من قبل شركات أو جامعات أو حكومات أجنبية، دون أن تعود أية فائدة على المجتمع المحلي صاحب المعرفة والخبرة السابقة بفوائد واستخدامات المصدر البيولوجي المعني· ولتقريب هذا المفهوم للأذهان، يمكننا أن نتخيل سيناريو، يصل فيه خبر لإحدى الشركات المتخصصة في العلوم البيولوجية، عن وجود نبات ذي صفات علاجية مميزة، يستخدمه السكان المحليون في منطقة ما من العالم، منذ أجيال عديدة· وسرعان ما ترسل الشركة خبراءها للحصول على عينات من النبات، ومعرفة طرق تحضيره، ومجالات استخدامه من قبل السكان المحليين· وعند وصول العينة إلى معامل الشركة المعنية، يقوم علماؤها بتحديد المركب الكيمياوي، أو الجين الوراثي المسؤول عن تلك الفوائد العلاجية· وعلى الفور تقوم الشركة بحماية (اكتشافها)، من خلال تسجيله كبراءة اختراع تخضع للقوانين الدولية لحماية الملكية الفكرية· وتعمل الشركة بعدها على تسويق المنتج النهائي بين سكان الدول الغنية وبأسعار مرتفعة، غالبا ما تكون خارج مقدرة سكان المنطقة التي انتزع منها النبات الأصلي·
ويُمنع أيضا سكان تلك المنطقة من محاولة تسويق النبات بشكل تجاري، وفقا للقوانين الدولية المعنية بحماية العلامات التجارية والملكية الفكرية· وفي النهاية، تتجاهل الشركة النداءات الداعية إلى مشاركة الأرباح مع السكان المحليين، على أساس عدم وجود عقود أو التزامات قانونية بينها وبينهم في البداية·
هذا السيناريو ليس خيالياً بالمرة، بل هو واقع حدث مرات لا حصر لها، ولازال يحدث على نطاق واسع· ودائما ما تكون نهاية هذا السيناريو واحداً من ثلاثة احتمالات· الاحتمال الأول: هو أن تحصل الشركة المعنية على حق حصري للاستغلال التجاري للمصدر البيولوجي، سواء كان هذا المصدر نباتاً أو حيواناً أو كائناً دقيقاً، أو حتى مجرد عضو حيوي أو جين وراثي· والاحتمال الثاني: أن يتم تحويل المعرفة والخبرة المحلية، المتعلقة بالكائنات الحية الموجودة في البيئة الطبيعية، إلى سلعة تجارية، يقتصر حق التربُّح المادي منها على الشركة المعنية· أما الاحتمال الثالث، فيكون في شكل الحصول على تسجيل لبراءة اختراع للمصدر البيولوجي، يتيح للآخرين استغلاله تجارياً إن شاءت الشركة، ولكن بعد أن يدفعوا عمولة مادية، يتفق عليها مسبقاً قبل بدء الطرف الآخر في الإنتاج والتسويق·
ومثل هذه السلوكيات، التي لا تمارسها الشركات متعددة الجنسيات فقط، بل ينغمس فيها كثير من الجامعات ومراكز البحث العلمي، بالإضافة إلى الحكومات أحياناً، هي بالتحديد ما يصفه البعض بأنه نهب للمصادر البيولوجية أو قرصنة حيوية· ورغم أنه من غير الواضح تاريخ بداية استخدام مصطلح القرصنة الحيوية، إلا أن إحدى أهم العلامات في تاريخه كانت في عام ،1997 عندما نشرت العالمة الفيزيائية والفيلسوفة الهندية ''فندانا شيفا'' كتابها الشهير ''القرصنة الحيوية: نهب الطبيعة والمعرفة''
(Biopiracy : The Plunder of Nature and Knowledge)
أما آخر الإضافات في هذا الموضوع، فهي الكتاب الذي صدر الشهر الماضي عن جامعة كولومبيا البريطانية بكندا، بعنوان '' القرصنة الحيوية: براءات الاختراع، والنباتات، والمعرفة المحلية'' .
(Biopiracy: Patents, Plants, and Indigenous Knowledge)
ويؤكد الكتاب الأخير على أن القرصنة الحيوية تزدهر في خضم ثقافة دولية، يتم فيها تهميش جميع أنواع المعرفة غير الغربية، مع تخفيض قيمة المعرفة المحلية والتقليل من شأنها من خلال وصفها بأنها نوع من ''الفولكلور الشعبي''· ويحاول الكاتب من خلال عرضه المسهب، إعادة تقييم دور المفاهيم والقوانين الدولية، ونظم حماية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع الممتدة جذورها في التاريخ والبيئة الغربية، من حيث تأثيراتها السلبية والإيجابية على ملكية المصادر البيولوجية في القرن الحالي·
ولكن في خضم الانتقادات الموجهة للشركات الغربية العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية، بسبب استغلالها للمصادر الطبيعية في دول العالم الثالث، هل نستطيع أن نجزم بأن مثل هذا الوضع هو وضع ضار للجنس البشري عامة؟ إجابة هذا السؤال تحمل في طياتها وجوهاً عديدة للحقيقة· فالشركات متعددة الجنسيات تدافع مثلا، بأن حصولها على المصادر البيولوجية من أصقاع العالم المتناهية، يمكنها من تطوير عقاقير ومنتجات غذائية جديدة، تساعد في القضاء على الكثير من المشاكل الصحية والغذائية التي تواجه الجنس البشري برمته· أي أن النتيجة النهائية لما قد يطلق عليه البعض سمة القرصنة، هو تعميم الفائدة على الجميع، وتحويل المعرفة المحلية إلى معرفة إنسانية· هذا بالإضافة إلى أن الأبحاث المتعلقة بالعثور على هذه المصادر البيولوجية ذات السمات الخاصة والفوائد المميزة، تتطلب نفقات هائلة يتم دفعها من قبل أموال المستثمرين· وخصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار ما يتبع الاكتشاف الأولي من دراسات لتأكيد الفعالية وتحديد درجة الأمان عند الا