رئيس الحكومة القادمة في العراق قادم من واشنطن، وتوقعات العراقيين المتابعين للموضوع يُلخصها المثل ''إنْ كان هاذي مثل ذيك، خوش مرقة وخوش ديك''· ويعني بالعربي الفصيح ''إن كانت هذه مثل تلك، فالمرقة جيدة والديك جيد''· حكاية هذا المثل، التي لا تُروى هنا أهون من صفقة ''اشترِ بغداد وخذ طهران مجاناً''· عُرضت الصفقة خلال المنافسة الجارية في واشنطن على رئاسة الحكومة، التي يُفترض أن ينتخبها العراقيون الشهر القادم· المتنافسان أحمد الجلبي، نائب رئيس الوزراء الحالي، وعادل عبد المهدي، نائب رئيس الجمهورية الحالي· وقد تنبئ أجواء المنافسة التي شهدتها واشنطن في الأسبوع الماضي بنوع الانتخابات القادمة في بغداد: مكائد، واستجوابات، واتهامات بالشيوعية، وصفقات نفطية، وتحذيرات من اغتيال الجلبي لعبد المهدي، ونوبات كآبة·
صحيفة ''نيويورك تايمز'' ذهبت في افتتاحيتها المخصصة للجلبي إلى حد اعتباره ''وكيلاً مزدوجاً''، مشيرة إلى اتهامه بالعمل في آن لحساب واشنطن وطهران· واستهجنت الصحيفة استقباله من قبل كبار المسؤولين، كوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، ومستشار الأمن القومي ستيفن هادلي، ووزير الخزانة جون سنو· وفي حين ذكرت صحيفة ''لوس أنجلوس تايمز'' أن الجلبي لم يعد سوى سياسي عراقي انتهازي، أكّدت ''نيويورك تايمز'' أنه أكثر من أيّ عراقي آخر مسؤول عن توريط إدارة بوش في ارتكاب خطأين كارثيين في العراق، أوّلهما شن الحرب تحت ذريعة كاذبة حول امتلاك صدّام حسين لبرنامج الأسلحة غير التقليدية، والثاني الادّعاء المزيف حول استقبال العراقيين للغزو ببهجة غامرة·
ولصحيفة ''نيويورك تايمز'' أسبابها الخاصة في اتهام الجلبي بأن تأثيره المدمّر لم يتوقف عند هذا الحد، بل لعب الدور الأساسي في إقناع سلطات الاحتلال بإصدار مرسوم كاسح عُزل بموجبه آلاف المحامين والأطباء والمدرسين، والمهنيين الآخرين بدعوى انتمائهم السابق لحزب البعث، وقام شخصياً بقيادة حملة التطهير، التي أدت، حسب الصحيفة إلى الاستبعاد الكارثي للعرب السُنة· فالجلبي هتك سمعة صحيفة ''نيويورك تايمز''، التي تفخر بأنها مرجع مهني وأخلاقي للإعلام العالمي· ولم تشفَ الصحيفة لحد الآن من أثر ذلك، على رغم أنها انفردت بين صحف العالم بالاعتذار عن مساهمتها في حملة ''أسلحة الدمار الشامل'' المزعومة، وطردت في الشهر الماضي محرّرتها اللامعة جوديث ميلر، التي لعبت أكبر دور في الترويج للجلبي في واشنطن·
ولم تقتصر الحملة ضد الجلبي في واشنطن على الصحافة، بل ساهم فيها زعماء سياسيون، كان بعضهم قد صوّت للحرب· الأعضاء الديمقراطيون في اللجنة القضائية للكونغرس وجهوا رسالة إلى المدّعي العام يحثون فيها على قيام مكتب التحقيقات الفيدرالي ''إف بي آي'' بالتحقيق مع الجلبي بشأن تهمة التجسس لصالح إيران· وفي رسالة إلى الجلبي نفسه طلب 18 عضواً في الكونغرس اللقاء به لتوضيح أفعاله السابقة ''ومساعدة شعبي العراق والولايات المتحدة لمعرفة لماذا نحن في حرب الآن''· أرفقت بالرسالة مئات الصفحات، التي تضمنت الشهادات الكاذبة حول منشآت الأسلحة البيولوجية والكيماوية للعراق· مصدر هذه الشهادات، التي اعتمد عليها وزير الخارجية السابق كولن باول في جلسة مجلس الأمن عشية الحرب شقيق نائب أحمد الجلبي·
وبعد تجاوز عدد قتلى العسكريين الأميركيين في العراق الألفين يفترض أن يكون الجلبي الشخص غير الملائم في المكان غير الملائم وفي الوقت غير الملائم· فالثقة بالرئيس بوش، حسب آخر استقصاءات الرأي العام هبطت إلى أدنى مستوى لها منذ توليه المسؤولية، وانخفضت نسبة مؤيدي الحرب من نحو 60 في المئة عشية الانتخابات العام الماضي إلى نحو 30 في المئة الآن، وأحيل إلى القضاء سكوتر ليبي مساعد نائب الرئيس ديك تشيني، وأحد مدبّري حملة ''الأسلحة الشاملة''·
ظروف كهذه تستدعي السؤال لماذا، ومَن هيأ للجلبي البرنامج الحافل للقاء كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية؟ تقارير واشنطن تكشف عن علاقة زيارة الجلبي بحملة مضادة يشنها لوبي المحافظين الجدد، الذي لعب الدور الرئيسي في شن الحرب على العراق· وهذا هو سر اللقاءات عالية المستوى، التي رتّبها للجلبي سفير واشنطن في بغداد زلماي خليل زاده، الأفغاني الأصل، وأحد أقطاب لوبي المحافظين الجدد· وبرهن الجلبي، العائد إلى واشنطن بعد سنتين من النفي في بغداد أنه يستحق لقباً أكبر من ''وكيل مزدوج''، الذي تطلقه عليه الصحافة الأميركية· فهو لا يكتفي بعمولة مزدوجة عن الصفقة من البائع والمشتري، بل يرفق بضاعة أخرى بالبضاعة الكاسدة، على طريقة ''اشتر واحدة وخذ أخرى مجاناً''· مرور الجلبي على طهران في طريقه إلى واشنطن أضفى أهمية خاصة على الصفقة، التي عرضها ''اشترِ العراق وخذ طهران مجاناً''· استحقت الصفقة المقترحة رفع الأنخاب على صحة الجلبي· اقترح النخب المستشرق اليهودي ذو الميول الصهيونية برنارد لويس في حفلة خاصة أقيمت على شرف الجلبي في منزل ريتشارد بيرلي، مساعد وزير الدفاع الأميركي سابقاً· وروّج الجلبي