شهد أكثر من موقع في العالم في الأسبوع الأخير من أكتوبر 2005 احتفالات بمرور أربعين عاماً على اغتيال الزعيم المغربي ''مهدي بن بركة'' في باريس في 29 أكتوبر ·1965 كان ''مهدي بن بركة'' زعيماً فعلياً مناضلاً للاتحاد الوطني للقوى الشعبية بالمغرب والذي بات يحمل اسم ''الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية'' منذ منتصف السبعينيات· لكنه منذ أوائل الستينيات، بدأ يزحف بجماهيرية طاغية له ولحزبه منسلخاً عن حزب الاستقلال المغربي المعروف· والتأريخ للحركة الوطنية والديمقراطية في المغرب لابد أن يذكر الكثير عن هذا المناضل، لكن هذا الجانب من حياة ''بن بركة'' في المغرب ليس إلا الجزء المحدود من تاريخه المؤثر على مستوى عالمي، رغم أن الشهيد المغربي قد تم اغتياله وهو لم يتجاوز الخمسة وأربعين عاماً من عمره!
يقترن اسم ''مهدي بن بركة'' الذي يحتفى به على مستوى عالمي الآن، والذي يعاد فتح ملفات التحقيق في وقائع اغتياله، بحركة نهوض في العالم الثالث، شكلت على يديه قفزة لابد أن يعيد شباب اليوم التفكير فيها بجدية وعمق كافيين· ذلك أننا جميعاً نتذكر ما كتب عن استعادة ذاكرة العالم هذا العام أيضاً للذكرى الخمسين لمؤتمر باندونج (أبريل 1955) للدول الآسيوية والأفريقية في إندونيسيا· كانت ثمة زعامات ناهضة وجديدة في العالم في ذلك الوقت مثل نهرو وسوكارنو وعبدالناصر ونكروما وغيرهم ممن حملوا لواء الوطنية والتغيير في الخريطة العالمية لعقدين بعد ذلك على الأقل، وأطلقوا روح النضال والمقاومة للهيمنة والاستبداد في العالم بما لا ينكره أحد الآن· وخلال عشرة أعوام فقط من قيام تجمع باندونج الآسيوي-الأفريقي، كان قد قام مؤتمر تضامن الشعوب الآسيوية-الأفريقية متخذاً مقره في القاهرة (1958) والتأم حشد ما سمي بتيار الحياد الإيجابي عندما انضم الرئيس اليوغوسلافي ''تيتو'' لهذه المجموعة ليتبلور العمل أوائل الستينيات في كتلة جديدة داخل النظام العالمي هي كتلة دول عدم الانحياز· كما انطلق مؤتمر آخر للشعوب الأفريقية، بقيادة نكروما إلى جانب مؤتمرات الشعوب والدول الآسيوية والأفريقية·
والذين عايشوا هذه الفترة الساخنة من صراعات الحرب الباردة، يذكرون كيف أن الحكومات الوطنية وزعاماتها المشهورة هذه، لم تكن في الواقع تشكل الأغلبية بين مجموعة الدول المستقلة حديثاً، بل كانت القوى الاستعمارية تنفذ بقوة إلى هذه المجموعة عن طريق الأحلاف العسكرية والسياسية أو إثارة الانشقاقات··· إلخ· ولكن قوة دول وقيادات عدم الانحياز استطاعت إثبات حضورها العالمي، تارة عن طريق الأمم المتحدة التي كانت ولا تزال ذات معنى طوال الستينيات والسبعينيات على الأقل، أو عن طريق مؤتمرات الشعوب الجامعة لتعبر عما لا تستطيعه المؤتمرات الحكومية·
علينا أن نتصور الآن كيف تنضج خلال عشر سنوات فقط بين 1955-1965 حركات جديدة وقيادات شابة جديدة، تدفع بما كان يعرف بـ''العملية الثورية'' في العالم الثالث لآفاق جديدة، مستفيدة حتى من تصاعد الصراعات داخل إطار الحرب الباردة التي شملت الأمم المتحدة، ومؤتمرات عدم الانحياز، والمنظمات الإقليمية الشابة مثل منظمة الوحدة الأفريقية، بل والجامعة العربية نفسها· ولن ننسى هنا زخم الثورة في أنحاء أفريقيا، ليحرك كل ذلك روحاً جديدة بعد عقد واحد من باندونج، ويقدم للعالم أسماء قيادات جديدة مثل ''مهدي بن بركة''·
كان المغرب شريكاً قوياً بقيادة الراحل العظيم محمد الخامس، في دعم ثورة الجزائر وفي تبني مجموعة الدار البيضاء لدول التحرر الوطني الأفريقية- العربية ودوره الدولي الكبير في قضية الكونغو والدفاع عن لومومبا··· إلخ· ولابد أن ''مهدي بن بركة'' كان ضمن الأصول الثابتة للوطنية المغربية التي تريد أن تواصل انطلاقاتها، وخاصة أنه انفتح على العالم العربي والأفريقي بشكل جذري تمنيناه دائماً لقوى المغرب الناهضة، بل وكان لمهدي بن بركة تميزه الخاص بصلته الوثيقة بحركة القوى التقدمية في أوروبا والمعروفة بدعمها لحركة التحرر في العالم الثالث، من فيتنام حتى أنجولا وموزمبيق وجنوب أفريقيا· هذا التميز بالاتصال الواسع بالحركات الشعبية والوطنية على مستوى آسيا وأفريقيا وأوروبا وفي القلب منها صلته في العالم العربي بجمال عبدالناصر جعل من ''مهدي بن بركة'' حقيقة أكثر من مغربية أو أفريقية فقط· كان ''مهدي بن بركة'' بعيد النظر لآخر حدود آسيا، يرى الصراع الصيني- السوفييتي معوقاً لحركة بلدان العالم الثالث نفسه، ولابد أنه عمل بجهد ملحوظ لتجاوز هذا الصراع أو على الأقل تجاوز تأثيراته السلبية على حركة شعوب آسيا وأفريقيا، وبذل في ذلك دوره وخاصة من خلال منظمة تضامن الشعوب الأفريقية-الآسيوية·
وانتبه ''مهدي بن بركة'' مبكراً لعنصر آخر في الحركة الشعبية العريضة للتحرر الوطني، يتجاوز مجرد تجنب الصراع الصيني-السوفييتي، إذ أدرك أن الولايات المتحدة الأميركية لا تمارس عدوانها فقط في فيتنام وأجزاء من آسيا، كمنافس استعماري على هذه المنطقة أو تلك، ولكن ''الإمبريالية الأميركية''