يلاحظ على منطقة الشرق الأوسط، تسمم سمائها وأجوائها بإفرازات النزاعين الرئيسيين فيها: الحرب المستعرة التي يشهدها العراق من جهة، وحدّة النزاع والمواجهات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني من جهة أخرى· وبدلاً من أن تستثمر الولايات المتحدة وزنها الدولي ومواردها السياسية في حل هذين النزاعين، فإنها تفعل العكس تماماً، بصبها الزيت على لهيب النيران المشتعلة أصلاً! ففي إسرائيل مثلاً، نلحظ أن الولايات المتحدة لم تتحلَّ بالحزم والحياد اللازمين للتصدي للنزاع وحله، وإنما جنحت بدلاً من ذلك إلى تجاهله وكأنه لم يكن، فاتحة بذلك الباب على مصراعيه أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون، ليواصل سحقه وقهره للفلسطينيين، إلى جانب الاستمرار في حيازة ممتلكاتهم وأراضيهم· وعلى حد قول صائب عريقات - كبير المفاوضين الفلسطينيين- فقد أفسحت إسرائيل خلال العام الجاري وحده، مساحات سكنية تكفي لنحو 30 ألف مستوطن إسرائيلي في أراضي الضفة الغربية· أما في الأسابيع الستة التي أعقبت انسحابها أحادي الجانب من قطاع غزة، في شهر سبتمبر المنصرم، فقد أقدمت تل أبيب على اغتيال 30 فلسطينياً، بينما بلغ عدد الأسرى والمعتقلين لديها نحو ،693 مع العلم بأن هذه الجرائم قد ارتكبت جميعها خلال 247 هجوماً و1,041 غارة إسرائيلية!
ذلك هو الحال في إسرائيل وموقف الولايات المتحدة الأميركية منه· أما في العراق، وبدلاً من إعلان الانسحاب الجريء من حرب خاسرة لا فوز فيها، وإعطاء العراقيين فرصتهم في التوصل إلى إجماع وطني ما أشد حاجتهم إليه، ها هو الرئيس بوش يواصل ترديد أسطوانته المشروخة، بألا انسحاب ولا تراجع ولا قبول إلا بالنصر المؤزر التام في العراق· وبعباراته هو قال بوش في خطابه الذي ألقاه بتاريخ السادس من أكتوبر المنصرم ''لا سلام بلا نصر''· أما نتيجة هذه السياسات، فتتلخص في أنها دفعت بالمنطقة كلها إلى حافة الهاوية - ليس العراق وحده، الذي يلوح في سمائه الآن شبح الحرب الأهلية والتفتت والتشرذم- وإنما تطال الهاوية هذه منطقة الشرق الأوسط على امتدادها· وبالنتيجة فقد امتدت التهديدات إلى منطقة الخليج العربي، التي يتربص بها خطر تصاعد النزاع والمشاحنات بين المسلمين السنة والشيعة، بفعل تداعيات الغزو العسكري للعراق· وكما رأينا وتابعنا في أخبار الأسبوع الماضي، فقد أسفرت ثلاثة انفجارات شهدتها العاصمة الأردنية عمّان، عن تدمير ما هو أكثر بكثير من الفنادق الثلاثة التي استهدفتها الهجمات الإرهابية، مع العلم بأنها فنادق يديرها الغربيون· وأهم ما دمرته التفجيرات المذكورة -التي أعلنت جماعة أبو مصعب الزرقاوي،الإرهابي الأردني الأصل المقيم حالياً في العراق، مسؤوليتها عنها- هو استقرار الأردن واقتصاده وصورته باعتباره الدولة الأكثر أمناً وحضوراً شرطياً كثيفاً في العالم العربي بأسره·
وبفضل انبساط الأمن فيه، فقد شهد الأردن خلال السنوات القليلة الماضية، انتعاشاً اقتصادياً غير مسبوق، حيث تدفقت عليه الأموال والعملات الأجنبية الصعبة، مصحوبة بتدفق مئات الآلاف من أبناء وبنات الطبقة الوسطى العراقية، الهاربين من بربرية ووحشية الحياة في بلادهم المجاورة· ولكن مشكلة الأردن وآفته أن نسبة البطالة فيه تصل إلى نحو 30 في المئة من مجموع السكان، إلى جانب قلة وشح موارده الاقتصادية، الأمر الذي يبقي على هذا الانتعاش سطحياً وعميق الأثر على حياة المواطنين· كما وجهت التفجيرات ضربة موجعة إلى سياسات الأردن الخارجية· وبفضل موقعه ما بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، فقد حافظ الأردن على علاقات وطيدة على المستويين الأمني والاستراتيجي مع إسرائيل، إضافة إلى كونه قاعدة خلفية للحرب الأميركية الأخيرة على العراق· وها هو الآن يدفع باهظاً ثمن هذه السياسات والعلاقات، التي يستهجنها الجزء الغالب من الرأي العام المسلم والعربي، علاوة على استهجانها من قبل مواطنين أردنيين كثر، في الداخل والخارج معاً·
وفي الوقت ذاته، تصعد الولايات المتحدة ضغوطها على سوريا، متهمة إياها بتسريب المقاتلين المعادين لأميركا إلى العراق، وكذلك بدعم الفصائل الفلسطينية المتطرفة، وبالتدخل في الشؤون اللبنانية، إلى جانب عدم تعاونها بما يكفي في التحقيقات التي يجريها القاضي الدولي ديتليف ميليس، حول ملابسات مصرع رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في شهر فبراير من العام الحالي·
وبفعل التهديدات والاستفزازات والاتهامات الأميركية التي تعرضت لها سوريا وقيادتها السياسية مؤخراً، فقد رد بشار الأسد الصاع صاعين لواشنطن وإدارة الرئيس بوش، عبر خطاب رئاسي ألقاه الأسبوع الماضي· وربما شعر بشار بألا خيار له سوى أن يقول كل ما جاء على لسانه من تصريحات: ''لن تركع سوريا لأية ضغوط، ولن تساوم مطلقاً في سيادتها الوطنية''· كما نعت الرئيس السوري جارته لبنان بأنها أصبحت ''قاعدة للتآمر'' على بلاده، بينما وصف رئيس وزرائها الحالي، فؤاد السنيورة، بأنه ''عبد مأمور'' في إشارة صريحة منه للقوى الغربية عموماً· كما جاء