تذكّر الكثيرون، وهم يتابعون أحداث العنف الدائرة في الضواحي الباريسية، حال الولايات المتحدة في الستينيات· فآنذاك، أيضاً، شهدت المدن الأميركية صدامات اتخذت شكل عنف مديني واسع وعنصري فاض عن حدود حركة الحقوق المدنية ووسائلها السلمية· بيد أن الفارق الكبير بين السياقين أن الولايات المتحدة الستينية كانت دينامية وصاعدة على عكس فرنسا اليوم·
وللسبب هذا تمكن الرئيس جون كينيدي، ومن بعده الرئيس ليندون جونسون، من أن يستجيبا للكثير من مطالب السود الأميركان، فيما تبدو فرنسا الراهنة حائرة حيال المشكلة التي يطرحها سكان الضواحي المسلمون والأفارقة· وفي انتظار أن تتبلور الخطة الاقتصادية - الأمنية التي طرحها الحكم مؤخراً، ربما كان من المفيد رسم الملامح العامة للأزمة وتفاعلاتها القائمة والمحتملة·
والحق أن أزمة فرنسا، اليوم، شديدة التعقيد، متعددة الجوانب والمستويات:
فاقتصادياً، تراجع أداء البلاد تراجعاً كبيراً فيما تئن تحت نسبةٍ في البطالة هي من أعلى النسب الأوروبية· ووراء هذا كله يلوح ما يشبه الشلل حيال الخيارات الاستراتيجية الكبرى· فالفرنسيون سبق أن رفضوا الصيغة الأوروبية المطروحة للدستور، واعتبروها ''أنغلو- ساكسونية''، كما رفضت أكثريتهم لبرلة الاقتصاد والتخلي عن الوظائف الرعائية، للدولة· وهم الآن، أو بعضهم، يستشعرون أن الطرق تكاد تكون مسدودة جميعاً ما لم يتم الإقدام على خطوات كبرى مما لا يجرؤ السياسيون عليه حرصاً على شعبيتهم·
وفي المقابل، تعمل الأزمة في وجهة معاكسة تماماً، فتعقّد مشاكل الاندماج، لا بل تفاقم مشاكل النموذج الفرنسي - القائم على المساواة في المواطنية - من دون تذليل التفاوت الكبير في فرص العمل والإسكان والتعليم· وغني عن القول إن هذا جميعاً يستدعي تدخل الدولة ورعايتها بجرعة أكبر·
بيد أن البيئة الأعرض المحيطة بالتخبّط في خيارات كهذه تبقى محكومة، هي الأخرى، بعدد من العوارض غير الصحيّة·
وفي المعمعة هذه حصلت الوحدة الألمانية التي حاول الفرنسيون تطويق مفاعيلها بوحدة أوروبية تلجمها وتحدّ منها· غير أن صيرورة ألمانيا الموحدة أهم دول أوروبا وأكبرها تترافق مع الانفضاض الفرنسي عن القارة، فيما يُتوقع لوصول المسيحية الديمقراطية أنجيلا ميركيل إلى سدة المستشارية في برلين، أن يُضعف عرى تحالفها مع باريس· وإذ تستفيد بريطانيا من التحولات الأوروبية هذه، يزداد التخبط الأميركي في ما خص الولايات المتحدة وحدود التحالف، والتمايز، عنها· فلئن تحوّل جاك شيراك، مع الحرب العراقية، إلى قائد لجبهة التمايز، جاءت التطورات التالية، خصوصاً ما نشأ عن الأوضاع السورية واللبنانية والإيرانية، لتدل إلى الحدود الممكنة لذاك التمايز·
والأمر لا يقف فقط عند هذا الحدّ· فهناك أيضاً تردي الأداء السياسي الفرنسي الذي يذهب البعض إلى وصفه بـ''الانحطاط'' والى اعتباره سبباً لاستشراء اللغة الديماغوجية والسلوكات الشعبوية· ففي مقابل التراجع في فعالية الحزب الاشتراكي، المتعدد الرؤوس والأجنحة، والذي زاده الاستفتاء على الدستور تمزّقاً، بعد ''عز'' السنوات الميترانية الطويلة، تتقدم صورة اليمين الحاكم على نحو هزيل وبائس· ذاك أن حزب ''اتحاد الحركة الشعبية'' الحاكم يرتسم على هيئة رأسين على الأقل، واحدهما يناحر الآخر ويكيد له· فهناك رئيس الجمهورية جاك شيراك الذي تحف صورته بفساد مشوب بالخفة وقلة الجدية· وهناك، في المقابل، وزير الداخلية نيقولا ساركوزي، الطامح إلى الفوز في انتخابات الرئاسة المقبلة عام ·2007 ويبدو أن الأخير، الموصوف بالتشدد والحزم في مسائل القانون والنظام، اختار الحل الأمني والشعبوي التفافاً على المشكلات الموصوفة أعلاه، خصوصاً منها مآسي الضواحي الباريسية التي تقطنها مئات آلاف المهاجرين البؤساء من ذوي الأصول المغاربية· لكن ساركوزي - وهو نفسه ابن مهاجرين وفدوا من هنغاريا- أراد أن يغازل، باتباعه النهج هذا، البيئة اليمينية الأكثر تطرفاً وتأمين دعمها لمعركته الرئاسية· ولا ننسى أن جان ماري لوبن، الرمز الأبرز للبيئة هذه، سبق أن احتل الموقع الثاني في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الماضية، متقدماً على مرشح الحزب الاشتراكي ورئيس الحكومة السابق ليونيل جوسبان· وقد ظهرت في السياق هذا تصدّعات أبعد، تتجاوز النواة الضيقة للحكم إلى محيطه الأعرض· وبالمعنى هذا، تدخّل في السجال الدائر وزير الترقية الاجتماعية والمساواة في الفرص عزوز بيجاج معلقاً على البذاءات العنصرية التي تفوّه بها ساركوزي· فقد رأى، بحق، الوزير الوحيد ذو الأصل المغاربي أنه لا يجوز استخدام تعبير ''حثالة'' في وصف شبان هائجين، كما أن ''التنظيف'' يُستخدم في الكلام عن الحذاء أو السيارة، لا في الحديث عن أحياء سكنية مأهولة بالبشر·
والحال أن ما حصل مؤخراً في الضواحي الباريسية ليس أول أحداث العنف والشغب، وهو، في أغلب الظن، لن يكون الأخير، لا في غيتوهات الضواحي الفرنسية، ولا في المدن الأوروبية الأخرى· فقد تتالت في فرنسا الحرائق التي