''إننا نخسر الحرب''·· بهذه العبارة المثقلة بالخوف والتحذير استهل دانيال بنجامين وستيفن سيمون الصفحة الأولى من كتابهما ''الهجوم التالي'' الذي يطرحان فيه فكرة محورية تتكرر على امتداد صفحات الكتاب وتعاود الظهور كل مرة بصيغ مختلفة مفادها أن الولايات المتحدة وطيلة السنوات التي أعقبت هجمات 11 سبتمبر 2001 أضاعت وقتا طويلا فاق بكثير ما تطلبه منها الأمر لكسب الحرب العالمية الثانية· لقد أنفقت الإدارة الأميركية الكثير من الجهد والوقت من أجل الدخول في حرب اختيارية في العراق كانت إحدى نتائجها الأكثر وضوحا تعزيز فرص أسامة بن لادن على ساحة الإرهاب الدولي ومنحه فرصة جديدة لقتل المزيد من الأميركيين ونشر أيديولوجيته بين بعض الشباب المسلم عبر العالم· وبالطبع ساهمت الفوضى الضاربة أطنابها في العراق التي عجزت واشنطن عن نزع فتيلها في تشويه صورة أميركا في الخارج وإضعاف قدراتها على التدخل في مناطق أخرى تعتبر أكثر تهديدا· وفي غضون ذلك راح تركيز الرأي العام الأميركي يتشتت بين تهديد الإرهاب في الداخل ومستلزمات مواجهة الحالة العراقية التي باتت تسوء يوما بعد يوم·
فبالرغم من الجهود الحثيثة التي تبذلها السلطات الفيدرالية لحماية التراب الأميركي من أي هجوم محتمل، لم تسهم الحرب في العراق سوى في مضاعفة فرص حدوث مثل هذا الهجوم بعدما تمكنت بعض العناصر الجهادية التي كانت تنشط في أفغانستان من الإفلات من وجه القصف الأميركي محولة وجهتها إلى العراق· ويعبر المؤلفان عن هذا الموقف الدقيق الذي وقعت فيه أميركا عندما يقولان ''لم يكن بن لادن يتوقع حتى في أكثر أحلامه جنوحا عن الواقع أن تتعثر أميركا بهذا الشكل في العراق''· وينطلق المؤلفان عبر الانتقادات التي يوجهانها إلى إدارة بوش من خلفية غنية بالعمل في البيت الأبيض حيث سبق وأن كانا موظفين عند ريتشارد كلارك في شعبة مكافحة الإرهاب خلال إدارة كلينتون· ويأتي كتابهما لدق ناقوس الخطر في وقت بدأ التركيز على احتمال تكرار هجمات داخل أميركا يخفت بسبب الأنظار المشدودة على نحو حصري صوب ما يجري في العراق·
لذا عندما حاول وزير الخارجية ويليام سيوارد أن يقنع الرئيس الأميركي لينكولن في 1861 بتولي أمر فرنسا وبريطانيا، فضلا عن الكونفيدرالية في الجنوب رد عليه الرئيس بصوت واثق ''لكل حرب وقتها سيد سيوارد''· لكن بسبب تجاهلها لهذه الحكمة يتهم المؤلفان إدارة الرئيس بوش بتحويل انتباهها عن الخطر الحقيقي والتركيز في المقابل على ما هو بعيد لا يطرح تهديدا فعليا على الأمن القومي الأميركي· فمباشرة بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر عندما كانت أعمدة الدخان مازالت تنبعث من مبنى البنتاجون وجه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد تعليماته إلى مساعديه بأن حدسه يخبره بضرورة توجيه ضربة إلى صدام حسين وأسامة بن لادن في نفس الوقت· وبعد ذلك بقليل كان مساعدو رامسفيلد مثل دوجلاس فيث يصدرون توجيهاتهم إلى ضباط الاستخبارات كي ينتقوا بعناية المعلومات التي تفيد بوجود صلة ما بين صدام حسين وتنظيم القاعدة· ومن جانبه فإن نائب الرئيس ديك تشيني الذي وقف أمام لجنة التحقيق في أحداث 11 سبتمبر وواجهته بنتائجها التي توصلت إلى عدم وجود صلات بين القاعدة والنظام العراقي ذكر أن مقالا نشر في مجلة ''ويكلي ستاندارد'' قال عكس ذلك وكأن المقال مصدر استخباراتي موثوق في صحة معلوماته·
وتكمن أهمية كتاب ''الهجوم التالي'' في أنه خلافا لبعض الكتب التي تعبر عن وجهة معارضة للحرب في مطلقها، فإن هذا الكتاب يعكس موقفا يدافع عن الحرب، لكن شريطة أن تكون حربا ضد العدو الحقيقي المتمثل في تنظيم القاعدة· والكتاب من هذا المنظور يشبه إلى حدما كتاب المحلل السابق في الاستخبارات الأميركية مايكل شوير ''الاستكبار الإمبريالي'' الذي ينتقد فيه إدارة الرئيس بوش ليس لأنها تخوض الحروب، ولكن لأنها تشنها ضد الأهداف الخاطئة· وهذا الكتاب الذي نعرضه اليوم يندرج في هذا الخط الذي لا ينكر ضرورة الحرب، بل يرى أنه عليها أن تركز على الأطراف المعادية لأميركا· ويشير الكتاب إلى الحرب في العراق كحرب منحت العدو الحقيقي فرصة رص الصفوف وحشد التأييد للقيام بعمليات إرهابية أخرى تستهدف مواقع داخل أميركا·
ويشرح المؤلفان عبر صفحات الكتاب كيف أساءت الحرب في العراق إلى أولوية الحرب على الإرهاب التي تبنتها إدارة بوش· فبالإضافة إلى عامل تشتيت الانتباه الذي أشار إليه بنجامين وسيمون ودوره في تبديد المجهود الحربي وتوزيعه على أكثر من جبهة يلفت المؤلفان الانتباه إلى مسألة غياب الأساس الأخلاقي لدى الإدارة الأميركية في اتخاذ قرار شن الحرب على العراق، خصوصا في ظل المعارضة التي أبدتها بعض القوى العالمية في أوروبا وغيرها، وتحفظ الأمم المتحدة إزاء اللجوء إلى التدخل العسكري· وبالطبع أدى التفاف الولايات المتحدة على الشرعية الدولية وإصرارها على اللجوء إلى الحرب بشكل منفرد وأحادي إلى الإضرار بصورة أميركا ومنح فرصة للقاعدة وعناصرها كي يؤكدوا مقولاتهم القائمة على انتقاد الولاي