لأول مرة يطرح على سوريا سؤال صعب على الطريقة الأميركية (أجب بلا أو بنعم؟) دون أن تترك لها منطقة وسطى للتفاهم، والسؤال الذي أعنيه يتعلق شكله باتهامها بعدم التعاون مع لجنة ميليس، ولكن جوهره يتعلق بالقضايا الجوهرية في المنطقة، وبموقف سوريا من المشروع الأميركي فيها·
والمفارقة أن ميليس (ومن خلفه السيد بولتون) صار المفوض المطلق والمرجعية الوحيدة في تقرير صحة ومصداقية الجواب السوري على سؤال التعاون، فبوسعه أن يقول متى شاء إن سوريا لم تتعاون فتقع على سوريا غضبة دولية متربصة لتحكم عليها بسيل من العقوبات التي فتح آفاقها إصدار إنذار مجلس الأمن لها تحت الفصل السابع·
ولقد واجهت سوريا الموقف بعقلانية وحكمة، فقبلت بالقرار على الرغم من الإحساس الشعبي العارم بالظلم، وليس بوسعها توجيه اللوم للأسرة الدولية التي تمكنت الولايات المتحدة من الحصول على موافقتها الجماعية، لأن كثيراً من الدول الصديقة لسورية فاوضت الولايات المتحدة التي تصرفت بدهاء حين طالبت بالأشد كي تحقق إجماعاً حول الأقل بعد التنازل، على أن يبقى القرار مفتوحاً على الأصعب· ولم تخف الولايات المتحدة حقيقة كونها تريد معاقبة سوريا دولياً لأنها تمتنع عن الدخول في بيت الطاعة الأميركي، فالتصريحات التي سبقت إعلان الإنذار أوضحت المطالب الأميركية التي لا شأن لها بقضية الحريري· وكانت الإدارة الأميركية قد أنذرت الرئيس السوري بأنه سيواجه ما سماه فلينت ليفيريت (امتحان النار)·وقد حرصت الأسرة الدولية على تقييد القرار 1636 بقضية التعاون مع التحقيق الدولي، لأن التخوف من تحقيق أهداف سياسية لاعلاقة لها بقضية مقتل الحريري كان (وما يزال) قائماً· ولكن المجتمع الدولي الذي وافق الولايات المتحدة على توجيه الإنذار لايوافق بالإجماع على أن تحقق واشنطن سلة أهدافها كاملة تحت غطاء دولي وتحت يافطة عدم التعاون السوري مع المحقق ميليس· ولكن السوريين يتذكرون أن الولايات المتحدة لم تنتظر قرار مجلس الأمن حين قررت غزو العراق، ويدركون أن الهدف الواضح من حشر سوريا في الزاوية هو إجبارها على التقوقع ريثما تنهي إسرائيل أهدافاً في لبنان أهمها القضاء على ''حزب الله''، وتوطين الفلسطينيين، ثم تتفرغ بعد إنهاك سوريا لإجبارها على نسيان المطالبة بالجولان، وقبول مبدأ السلام مقابل السلام (وليس الأرض)، وهذا ما عنته السيدة كوندوليزا حين قالت إن على سوريا أن تغير استراتيجيتها·
لقد استُخدمت جريمة اغتيال الحريري بدهاء بارع وحقق مرتكبوها جملة أهداف منها التخلص من حضور الحريري الذي يتعاطف مع ''حزب الله''، ولا يسمح بتمرير أهداف إسرائيل، ولا بالضغط على اللاجئين، أو تدويل لبنان أو احتضانه لقاعدة عسكرية أميركية، أو بعقد صفقة منفردة مع الإسرائيليين·· ومن أهداف الجريمة أيضا توجيه اتهام لسوريا بدمه، وإجبارها على تنفيذ الإملاءات عبر الابتزاز·
والشارع السوري المحقون باضطراب قلق تتنازعه مشاعر شتى، فهو لا يريد لبلاده أن تخضع لهذا الابتزاز الصهيوني الواضح، ولكنه لا يريد لها أن تواجه قوة عظمى تريد تدميره، وهو يرى ما يحدث في العراق، ويرغب أن ينجح العمل السياسي في تجاوز الأزمة الحالية، فإن لم ينجح فإنه سيواجه قدراً مفجعاً، ولن يكون أمامه غير الإذعان لمواجهة مصيره والتصدي لمن يعتدي عليه بكل ما يملك من قوة إيمان بحقه في الدفاع عن وطنه، وسيعني ذلك بالضرورة اضطراباً يعم المنطقة كلها، وهذا ما لايريد أحد أن يصل إليه الحال!
من هنا يتعلق الشعب في سوريا بالحل السياسي العادل والمنصف الذي يحقق له الاحتفاظ بكرامته الوطنية، وهو يعرف أن هدف الضغط الحالي على النظام هو إيصال البلاد إلى حالة الفوضى، لذلك تحرص كل القوى السياسية، بما فيها قوى المعارضة الوطنية، على الارتقاء إلى مستوى الشعور بالمسؤولية الجماعية، وقد أطلقت القيادة السورية مشروعاً للإصلاح السياسي عبر الدعوة إلى مناقشة قانون الأحزاب، وأعتقد أن هذا النقاش سيقود إلى حوار وطني شامل حول كل القضايا الإشكالية، وقد أعلنت سوريا أنها وطن يتسع للجميع، وكان قرار العفو الأخير عن المعتقلين السياسيين متابعة لإنهاء حالات الاعتقال وإطلاق حرية التعبير عن الرأي الآخر تحت سقف الثوابت الوطنية·
ويدرك الشعب السوري أن الأزمة الراهنة ليست إلا حلقة متصاعدة من سلسلة أزمات مستمرة تحاصر بها سوريا، وستتبعها حلقات قد تكون أشد وأقسى، فالمطالب الأميركية لا تنتهي، والمشروع الأميركي يهدف أساساً إلى تمكين إسرائيل التي ترفض المبادرة العربية للسلام، وتعلن أنها لن تعيد الجولان، وتريد من العرب إعلان الطاعة والإذعان، وهذا ما لايمكن أن تقبل به الشعوب العربية حتى لو قبلت به بعض الأنظمة!
ويأمل شعبنا أن يرتقي الإعلام العربي كله إلى شعور بالمسؤولية، فقد بات مخزياً أن تجند بعض الصحف إمكاناتها لتشويه صورة سوريا ولتصفية حسابات قديمة، بعضها شخصي، ونحن نرى أن سوريا تتصرف بحكمة وليس فيها من يتخذ قرارات هائجة، وأن ثقتها بالبراءة هي التي تدعوها إلى إع