إننا نعيش في عصر العولمة بتجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية· وشعارات العولمة المرفوعة هي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتعددية· وبغض النظر حول ما إذا كان احترام حقوق الإنسان قيمة مستقلة بذاتها أم هي من صميم مفردات الديمقراطية، فلاشك أنها أصبحت شعاراً عالمياً، يتمسك المجتمع الدولي بتطبيقه في كل بلاد العالم· بل إن المجتمع المدني العالمي والذي هو من إفراز العولمة وثورة الاتصالات الكبرى، يجعل احترام حقوق الإنسان في مقدمة القيم التي يدافع عنها·
وحقوق الإنسان تثير في التطبيق مشكلات شتى وخصوصاً في الوطن العربي، وذلك لأن الوضع السلطوي السائد أدى في التطبيق عبر الخمسين عاماً الأخيرة إلى اعتداءات جسيمة في هذا المجال، وخصوصاً في طرق إدارة النظم السياسية السلطوية العربية لصراعها مع خصومها السياسيين·
والتاريخ السياسي العربي المعاصر زاخر بوقائع تعذيب الخصوم السياسيين ونفيهم وسجنهم غير المشروع، بل إنه في بعض البلاد العربية تعرضت بعض الجماعات السياسية إلى إجراءات قمع بالغة العنف كانت أشبه بمحاولة إبادتهم تماماً!
هذا السجل المخزي هو الذي دفع عديداً من الأنظمة السياسية السلطوية العربية إلى مقاومة الموجة العالمية العارمة التي تطالب بتطبيق حقوق الإنسان·
غير أن هذه النظم السياسية العربية السلطوية لم تجرؤ على أن تعترض جهاراً على تطبيق مواثيق حقوق الإنسان والتي وقعت على أغلبها، لذلك ومن قبيل المراوغة رفعت حجة الخصوصية الثقافية في مواجهة عالمية حقوق الإنسان، ومحتوى هذه الحجة أنه مع التسليم بعالمية حقوق الإنسان إلا أنه في التطبيق لابد من مراعاة الخصوصيات الثقافية للدول العربية والإسلامية، مما يمنع من تطبيق بعض قواعد حقوق الإنسان·
والواقع أن الخصوصية الثقافية للمجتمعات العربية حقيقة لاشك فيها، بحكم التاريخ الاجتماعي الفريد لهذه المجتمعات، وسيادة أنساق من القيم لا تتفق بالضرورة مع أنساق القيم الغربية· غير أن إطلاق هذا الشعار في هذا المجال بالذات الغرض منه في الواقع التهرب من تطبيق قواعد حقوق الإنسان العالمية·
وهناك اتفاق - على سبيل المثال- على أن أي متهم ينبغي أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي، ولابد له أن يتمتع بضمانات قانونية تكفل له محاكمة عادلة، ومن بينها ضرورة استعانته بمحامٍ، وعدم تعرضه للتعذيب، والالتزام الدقيق بقواعد الإجراءات الجنائية المتفق عليها في كل بلاد العالم المتحضر· في هذه المجالات وغيرها ليس هناك مجال للتعلل بحجة الخصوصية الثقافية لعدم تطبيق قواعد حقوق الإنسان العالمية·
وإذا أضفنا إلى ذلك حقوق الإنسان السياسية، وحق المواطنين في الانتخاب الحر المباشر لمن يمثلونهم في المجالس المحلية والنيابية، لأدركنا أن إعمال هذه الحقوق بشكل صحيح إنما يمثل ضربة حقيقية لصميم بنية النظام السلطوي الذي يقوم على القهر السياسي للجماهير، والذي حين يريد أن ''يتجمل'' ويلبس أردية الديمقراطية، فإنه يلجأ إلى الاستفتاءات والانتخابات المزورة هروباً من قاعدة تداول السلطة·
غير أن حقوق الإنسان لا تتعلق فقط بالحقوق القانونية أو السياسية ولكنها - أكثر من ذلك- تتعلق بالحقوق الاقتصادية· وفي هذا المجال فإن الدولة السلطوية العربية التي تسيطر على عملية صنع القرار فيها العشوائية التي أدت إلى إهدار المال العام، بالإضافة إلى الفساد المنظم الذي تمارسه النخب السياسية الحاكمة، كل ذلك أدى إلى حرمان الجماهير العربية العريضة من حقها في العمل المأجور المنتظم، وفي التمتع بالتأمينات الاجتماعية والصحية، والتي هي حق من حقوق الإنسان في أي مجتمع معاصر·
غير أن احترام حقوق الإنسان ليس سوى جانب من جوانب شعارات العولمة السياسية، أما الجانب الثاني المهم فهو ضرورة احترام التعددية· والتعددية ليست تعددية سياسية فقط، ولكنها قد تكون تعددية دينية وعرقية ولغوية· وهذا الموضوع بالذات لم ينلْ حقه من الاهتمام في الفكر السياسي العربي الحديث والمعاصر، كما أنه في الممارسة ارتكبت الدولة السلطوية العربية مخالفات شتى في مجال حقوق الإنسان، وصلت في بعض الحالات المتطرفة إلى ارتكاب جرائم ضد بعض الأقليات غير العربية·
ونحن نعرف جميعاً أن المجتمع العربي يتشكل من أقوام متعددة على رأسها بالطبع العرب وهم الغالبية، غير أن هناك الأكراد في العراق وسوريا، وهناك الموارنة في لبنان· وهناك البربر في الجزائر والمغرب، وهناك الأفارقة المسيحيون في السودان·
ونتيجة غيبة فكر قومي عربي مستنير في مجال التعامل مع الأقليات غير العربية، أدى ذلك إلى ممارسات غير ديمقراطية، بل ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى الخرق الواضح لحقوق الإنسان·
ولاشك أن جزءاً من مشكلة التعددية سياسية كانت أم دينية أم لغوية، هو غياب حرية التنظيم من ممارسات عديد من الدول العربية·
فبعض البلاد العربية تحرم إنشاء أحزاب سياسية، بل إنه في ليبيا - على سبيل المثال - هناك شعار ذائع يقول من ''تحزب خان''! مع أن التعدد الحزبي يكون أساساً من