بعد تقرير ميليس أحس الكثير من العرب بالربو في صدورهم، وبدا أن دخان الحروب سوف يخنق الكثير، وفي دمشق تحركت المظاهرات ضد ميليس، وانصبت كل الأفكار على ماذا تخطط أميركا، ولكن لم يخطر إلا في بال الندرة أن المشكلة ليست عند ميليس ولا أميركا ولا إسرائيل بل هي عندنا، وأننا يمكن أن نغير سلميا أنفسنا وهو التغيير الجوهري، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم· وأن وصفة التغيير هي داخلية قبل أن تكون من باريس أو واشنطن· والشيطان بذاته ليس له سلطان إلا على الذين يتولونه والذين هم به مشركون· وفي التاريخ عظة·
استطاع غاندي إنهاء الاحتلال البريطاني من الهند دون أن يموت خمسة ملايين شخص، كما حدث في فيتنام أو مليون شخص كما حدث في الجزائر أو ما يموت في العراق اليوم! ليس هذا فقط بل باحترام الخصم وإعجاب العالم وامتلاء القلب بالإعجاب بهذا الرجل بتطويره طريقة عجيبة محتواها الأخلاقي أن الخصم يمكن هزيمته من داخل ضميره أكثر من قتله أو دحره في ساحات القتال· وتعتمد فكرة اللاعنف على ضفيرة من سبعة أفكار تأسيسية:
أولاً: العنف هو سعي إلى مصادرة حق الآخر في الوجود، كذات مادية، وهذا هو العنف المادي، أو كذات فكرية، وهو العنف الرمزي· ثانياً: العنف يبدأ فكرة في الذهن أو شعورا بتحقير الآخر والانتقاص منه والاستخفاف به واعتباره الأدنى الذي يجب تطهير الأرض من دنسه، وينتهي دماء على الأرض وفسادا في البر والبحر· ثالثاً: العنف لا يحل المشاكل بل يعقدها أكثر ويولد المزيد من العنف، أما السلم فلا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم ولو على المستوى الزمني البعيد· وهنا يعلمنا القرآن قاعدة ذهبية في التعامل: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)· رابعاً: في عالم الطفل قد نستطيع ردعه بطريقة تربوية فاشلة (كالضرب) فيتوقف عن ممارسة بعض السلوكيات ولكنه داخل نفسه لن يتوقف عن ممارستها ما لم يقتنع بذلك ويعود إلى السلوك نفسه بمجرد زوال التهديد والعقاب، ويذكرنا القرآن بهذه السيكولوجية (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) أي أن المنعكس الشرطي النفسي قائم، وحال زوال الردع ترجع النفس لممارسة السلوكية السابقة· وهذا يعني في حقل التغيير أن العنف لا يغير لأنه لا يلامس الوتر الذي يجب أن يعزف عليه أهل الإصلاح والتجديد وهو وتر تغيير ما بالأنفس· خامساً: هناك علاقة تلازم بين العلم والسلم؛ فكلما ازداد الإنسان نضجا ورشدا وتسلحا بالعلم مال إلى حل المشاكل سلميا والعكس بالعكس·
سادسا: وصل عالم الكبار إلى إدراك هذه الحقيقة من خلال معاناة شديدة وكلفة مريعة من الضحايا والدماء ولكنه مازال متخلفاً أخلاقيا ويبيع السلاح للدول الفقيرة أو الجاهلة مع معرفته الأكيدة أنها عتاد ميت؛ وهكذا فإن الحرب توقفت ولكن الوهم مازال قائما إنه يمكن الاستمرار بحل المشاكل بالحرب كما ظن ميلوسوفيتش وصدام وشارون وبوش وكثير من العرب، فحق عليهم العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يريد· سابعا: إن الحرب تهدف إلى كسر إرادة الخصم أي إلغاء الآخر وبالتالي فنهاية الحرب هي تحطم إرادة وبقاء إرادة وحيدة تملي القرار في الساحة، وهذا خطر على الطرفين، فوسط من هذا النوع يولد كائنين مريضين: مستكبر ومستضعف· وهذا يفتح دورة الصراع من جديد· فهذه سبعة أفكار تأسيسية في المغزى الأخلاقي العميق لفكرة اللاعنف· وهي تنفع لمن يريد التغيير في رياح التغيير التي تلفح عرب الشرق الأوسط بعد تقرير ميليس·