الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي قامت على أكتاف ثورة شعبية أوصلت ''الملالي'' في إيران إلى سدّة الحكم تمثل نموذجا هاديا وملهما لكثير من حركات الإسلام السياسي، وقد أشاد بها وبنموذجها عدد من تلك الحركات وصرّح به كثير من رموزها·
لكنّ حركات ''السلفية الجهادية'' ليست كبقية الحركات، لأن تكوين هذه الحركات وإن كان في جزء منه مستمداً من حركات الإسلام السياسي إلا أن شقا منه أيضا أتى من بعض المصادر التراثية السلفية ذات التأزم العقدي المتشدد، ويقف على رأس هذا الشق المكوّن لخطاب وأولويات السلفية الجهادية ''الموقف من المبتدعة''، والتركيز على مصطلح ''البدعة'' و''المبتدعة'' مهمّش لدى حركات الإسلام السياسي التي حاولت أن تمارس السياسة عن طريق رصّ الصفوف خلف المشروع السياسي من كل المقتنعين به من المسلمين، إلا أن هذا المصطلح يتخذ مكانة أساسية في تكوين الخطاب السلفي المأزوم بالتشدد العقدي، فهو مصطلح أساسي لأنه يمنح الجماعات المتبنية لخطابه مساحة من ''التميّز'' عن باقي المسلمين الذين تشوب عقائدهم أو ''مناهجهم'' انحرافات تخدش النقاء السلفي المتصوّر لدى هذه الجماعات، ومن ضمن المتأثرين بخطابها جماعات ''السلفية الجهادية''، ومن أبرز أمثلة جماعات السلفية الجهادية في المشهد المعاصر ''تنظيم القاعدة'' الأم، وتنظيم ''قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين'' كما هو الاسم الأخير لهذه الجماعة العنفية التي تتخذ من العراق ساحة لعلمياتها تحت قيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي·
هذا في سياق جماعات السلفية الجهادية، أما في الضفة الأخرى حيث الثورة الإيرانية وجمهوريتها الإسلامية فإن الوضع وإن اختلفت مقدماته وفلسفته، إلا أن نتائجه تمنح ذات اليقينية والإقصائية والموقف من الخصوم، مع اعتبار تباينات الطيف الإيرانية، إلا أن لديهم ''سلفية ثورية'' ذات نكهة خاصة·
الفرق بين الجهادية في السياق السلفي، والثورية في السياق الإيراني، يكمن في أن الثانية وصلت لسدّة الحكم، وجرت مياهها وأيديولوجيتها في أودية السياسة وجداول المصالح والموازنات إلى حدما، بينما لم تزل الجهادية تسيح في الحقول بين البيوت والمساكن على غير هدى بحثا عن موطئ قدم لحلم الدولة الإسلامية بمواصفات الجودة التي تضعها السلفية الجهادية وتحلم بها، وهذا الفارق فارق كبير دون شك لأنه يحوّل الثورة -أي ثورة- من كونها ثورة إلى دولة، يعني انزياح الخطاب والاهتمام من الشعاراتية والرفض، إلى العمليّة والبناء وهو ما يجر معه التزامات جديدة وقدرة على تحويل ''الشعار'' إلى ''برنامج'' عملي قابل للتطبيق والممارسة، ثم إن ''الدولة'' لها تبعاتها السياسية في لعبة المصالح والموازنات الدولية، وفي حركة الاقتصاد والتنمية وفي مجالات أخرى هي من قبيل ''اللامفكر فيه'' لدى حركات ''السلفية الجهادية''·
هذان الوجهان لعملة التشدد الديني لهما بعدان سياسي وعسكري، وفي اللحظة العراقية الراهنة التقى العدوان السلفي والإيراني على مصلحة مشتركة في العراق الجديد، وأثبتها وجودهما كلاعبين رئيسيين في المشهد العراقي، الوجود السلفي الجهادي متمثلا في الزرقاوي لا يحتاج إثباته إلى دليل، فهو يملأ المشهد العراقي بالدماء والأشلاء والتفجيرات والبيانات والتصريحات، أما الوجود الإيراني فإن تصريحات وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل كانت مباشرة وقويّة في التحذير من تناميه وتدخلاته السافرة في أدقّ التفاصيل العراقية الراهنة، كما أن تصريحات الملك عبدالله الثاني ملك الأردن وتحذيراته من حزام شيعي يمتد من إيران على طول شمال المشرق العربي تصب في ذات الإطار·
السلفية الجهادية ممثلة بقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين وجهادها المحموم، والجمهورية الإسلامية التي لم تتخلّ عن فكرتها القديمة في ''تصدير الثورة''، يلتقيان اليوم على المشهد العراقي ليحرقاه في مبخرة أهدافهما الأيديولوجية ومصالحهما السياسية·
مع اهتزاز الكيان العراقي من رأسه السياسي إلى قاعدته الشعبية بسبب الاحتلال الأميركي أفقد الكثير من التيارات العراقية بوصلة الاتجاه، فحين أصبح بعضها إيرانيا أكثر من كونه عراقيا، أصبح البعض الآخر سلفيا أمميا قبل أن يكون عراقيا، ولا أدلّ على النموذج الأول من تصريحات وزير الداخلية العراقي التي خرجت عن إطار اللباقة واللياقة والدبلوماسية في رده على تصريحات الأمير سعود الفيصل، والنموذج الثاني تمثله التيارات المتعاطفة مع الزرقاوي أو مع فكرة مقاومة المحتل ورفض الصياغة الجديدة للعراق الجديد، وفي الحالتين في تواري ''الوطن'' ومصالحه خلف غبار ''الأيديولوجيا'' ومبادئها·
تسعى إيران بتقديمها الدعم بطريقة ''ما'' للزرقاوي إلى عدة أهداف رئيسية، منها تشويه صورة العرب السنّة لدى الغالبية الشيعية وتنمية الكراهية لهم داخل الصف الشيعي العراقي بشتى أطيافه لتحسيس العراقيين الشيعة بأن إيران هي ملاذهم الأول والأخير، وتستخدم لتحقيق ذلك دموية الزرقاوي الموجهة أساسا للعراقيين الشيعة وليس للمحتل الأميركي كما هي الدعوى الأساس في ق