من بين الإخفاقات العديدة التي مُنيتْ بها وسائل الإعلام الأميركية منذ الحادي عشر من سبتمبر ،2001 ليس هناك من إخفاق أكثر ارتباطا بذلك اليوم من الموقف الفاتر والمتساهل الذي وقفته تلك الوسائل تجاه قيام إدارة بوش باعتناق التعذيب باعتباره سياسة دولة·
من منا يستطيع أن ينسى تلك الشهور المحمومة التي مررنا بها خلال خريف ،2001 عندما قامت الشبكات الفضائية الأميركية، وصفحات الرأي والافتتاحيات في الصحف، بتدشين سجالات حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الولايات المتحدة في ''انتزاع المعلومات'' من أي عضو من أعضاء ''القاعدة'' يسقط في أيدينا؟ في ذلك الوقت جلس المسؤولون الأميركيون وراحوا يناقشون علنا ودون خجل ما إذا كان التعذيب محرما أم لا، ومتى وأين يجب استخدامه·· وقد وصل هذا المشهد إلى ذروته العبثية عندما قام داعية حريات مدنية مزعوم يعمل أستاذا للقانون في جامعة هارفارد ويدعى ''ألين ديرشوفيتز'' باقتراح الإجراءات التي يمكن بها الحصول على ''إذن بالتعذيب''·
وقد تم التحريض على كل ذلك عن طريق وسائل الإعلام الخبرية التي وجدت أنه من الطبيعي أن تقوم بتبني تلك التعبيرات اللفظية المستمدة من لغة محاكم التفتيش مثل: ''الاستجواب القسري''، و'' الإجراءات القاسية'' وغيرها من التعبيرات التي بدأت في الظهور حينئذ، ولعل أشهرها تعبير'' التسليم'' الذي كان يقصد به نقل المشتبه بهم ممن يتم القبض عليهم وتسليمهم إلى دول عربية معروف عنها أنها تتسامح مع الإرغام أثناء استجواب المتهمين فيها· ونظرا لأننا لا زلنا شعبا طيب القلب، فإننا آثرنا أن نقوم بتصدير التعذيب للخارج·
وفي هذا الأسبوع مضينا خطوة إضافية على هذا الطريق عندما نشرت صحيفة ''الواشنطن بوست'' خبرا جاء فيه ''أن السي·آي·إيه كانت تحقق مع بعض من أهم نشطاء القاعدة الذين تم أسرهم، وذلك في دولة من دول الكتلة الشرقية السابقة''·
وجاء في التقرير أن مثل تلك المعتقلات كان يشار إليها في الوثائق السرية لـ''السي آي إيه'' والبيت الأبيض ووزارة العدل والكونجرس، باسم ''المواقع السوداء''· والسؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن أي أميركي عندما يقرأ ذلك هو: ما الذي يدعو دولتنا إلى الاحتفاظ بأي مواطنين أجانب لديها داخل معتقلات في دول أجنبية؟ والإجابة البسيطة هي أنها تريد أن تفعل بهم أشياء يعتبر القيام بها داخل الولايات المتحدة غير قانوني كالتعذيب على سبيل المثال·
ومع ذلك فالمسؤولون الأميركيون لا يزالوا يواصلون التهرب من الإجابة على هذا السؤال، من خلال استخدام تعبيرات لفظية تهدف إلى التهرب من تقديم التبريرات التي دعت إلى إقامة مثل تلك المعتقلات في تلك الدول الأجنبية· وللأسف الشديد فإن الصحافة الأميركية تشجعهم على هذا التهرب من خلال عدم الاهتمام بمناقشة ما يؤدي إليه ذلك من عواقب، وهو موقف أقل ما يقال عنه إنه يعكس نوعا من الجبن الأخلاقي· وحتى صحيفة ''الواشنطن بوست'' التي يرجع إليها الفضل الكامل في كشف وجود مثل هذه المنشآت السرية، أحجمت عن الكشف عن كافة المعلومات التي بحوزتها للشعب الأميركي حيث امتنعت عن نشر أسماء الدول الأوروبية الشرقية التي توجد فيها مثل تلك المعتقلات بحجة أن المسؤولين الأميركيين الرسميين قد طلبوا منها ذلك حتى لا يقوم الإرهابيون باستهداف مصالح تلك الدول·
وعلى الرغم من أنه كان متوقعا أن تقوم وسائل الإعلام الأميركية بنشر سيل لا يتوقف من التعليقات والمتابعات للخبر الذي نشرته ''الواشنطن بوست'' إلا أن شيئا من هذا لم يحدث·
ولكن هذا التجاهل الإعلامي لا يجب أن يمنعنا من القول إن هناك رائحة قذرة في تآمر الولايات المتحدة مع الديمقراطيات ''الوليدة'' في أوروبا الشرقية حول هذا الشأن!
لقد مضى علينا حين من الدهر، كان المسؤولون الأميركيون يقفون فيه كي يقولوا إن أميركا هي قائدة العالم الحر·· فهل يستطيع أي منهم الآن أن يقف لكي يكرر مثل هذا الزعم بعد أن أصبحت بلادنا تتبنى التعذيب كسياسة دولة؟
ينشر بترتيب خاص مع خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست