هل لك أن تتوقف برهة، لتتأمل هذه الأحداث التي جرت خلال الأيام القليلة الماضية؟ فقد بلغ عدد الجنود القتلى من الأميركيين في العراق أزيد من ألفي جندي، إلى جانب إصابة نحو 14 ألفاً آخرين، يوجد بينهم كثيرون ممن أصيبوا بعاهات مستديمة· أما في واشنطن فقد أرغم ''لويس ليبي'' مدير مكتب نائب الرئيس ديك تشيني على الاستقالة، إثر توجيه اتهامات له بعرقلة سير العدالة وأداء القسم زوراً، من قبل لجنة تحقيق قضائية كلفت بالتحقيق حول مزاعم تتردد عن ضلوع شخصيات قيادية في إدارة بوش، في الكشف غير المشروع عن هوية عميلة وكالة المخابرات المركزية فاليري بليم وتسريبها للصحفيين· وكان القصد الخفي من وراء ذلك السلوك هو أن يسرب إلى الصحافة ما يسيء إلى زوج العميلة المذكورة، جوزيف ويلسون السفير الأميركي السابق بدولة النيجر، الذي اتهم البيت الأبيض بتزوير المعلومات الاستخباراتية الخاصة ببرامج الأسلحة النووية العراقية، بهدف تبرير الحرب على نظام صدام حسين· إلى ذلك يشمل التحقيق أيضاً وحول ذات الموضوع، كارل روف· والآن فقد جاء دورك للربط بين هذه الأحداث جميعاً، لترى ماذا تكون النتيجة·
وما تلك النتيجة سوى صورة إدارة في حالة من الفوضى والارتباك، خاصة إذا ما ظلت هذه الصورة على حقيقتها المتمثلة في أن أكثر من نصف الأميركيين يرون اليوم، أن تلك الحرب كانت خطأ، كما هو خطأ كذلك ترشيح مستشارة الرئيس هارييت مايرز لعضوية المحكمة العليا، متبوعاً بالاتهامات الموجهة إلى توم ديلي زعيم الأغلبية في مجلس النواب، ثم التحقيقات التي يخضع لها نظيره في مجلس الشيوخ، بيل فيرست· وليست الصورة الخلفية بأقل فوضى أو ارتباكاً من هذه· أما إظهارها والدفع بها اليوم إلى سطح الأخبار والتغطيات الصحفية، فهذا أكبر تحد تواجهه الصحف والإعلام الأميركي في الوقت الراهن· ولكي نضع الأمر كما هو دون مراوغة أو مخاتلة: فقد تمكن الرئيس بوش وكبار معاونيه وأفراد طاقم إدارته -لا سيما نائبه ديك تشيني- من إقناع الشعب الأميركي، الذي كان لا يزال يعاني حينئذ من صدمة هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بضرورة تأييد شن الحرب على نظام صدام حسين، عن طريق التأكيد للمواطنين الأميركيين قاطبة، على أن صدام حسين قد حصل على ما يريد من أسلحة الدمار الشامل، سواء كان النووي منها أم البيولوجي! كما قال هؤلاء للشعب الأميركي أيضاً، إن المسألة لا تتعدى كونها مسألة قليل من الوقت، كي يتمكن السفاح الطاغية العراقي -المعروف بإراقته لدماء أهله وأبناء وبنات شعبه- من إتاحة أسلحته الخطيرة هذه، للإرهابيين الذين لن يتوانوا عن شن هجمات بتلك الأسلحة ضد الولايات المتحدة الأميركية·
ومن منا يستطيع أن ينسى، كيف كان يحدثنا ديك تشيني وكوندوليزا رايس -مستشارة الرئيس بوش لشؤون الأمن القومي حينها- وغيرهما من أعضاء إدارة بوش وطاقمه، عن خطر تلك اللحظة الكارثية المروعة، التي يتضح فيها صدق نوايا صدام حسين الإجرامية إزاء الأمة الأميركية، في شكل سحابة كثيفة من الانفجارات النووية فوق سماء إحدى المدن الأميركية؟! لكن وكما نعلم الآن، فإنه ليس ثمة وجود لهذه الأسلحة، كما اتضح أن عزم الطاغية العراقي المخلوع على تطوير الأسلحة المذكورة، إلى حد يجعل منها مصدر تهديد بالقدر الذي تتحدث عنه إدارة بوش، لم يتعد حدود كونه أضغاث أحلام· وعليه فإن السؤال الذي يطرح بإلحاح هو: هل كان اعتقاد الإدارة وتأكيد ما قالته عن تلك الأسلحة، ناجماً عن تلقيها معلومات استخباراتية خاطئة ومضللة عن برامج صدام حسين، أم أنها تعمدت تزييف المعلومات التي تلقتها من وكالة المخابرات المركزية، وغيرها من الأجهزة الاستخباراتية، بقصد كسب التأييد الشعبي العام لحرب كان الجمهور سيرفضها حتماً لولا ذلك التزييف والتهويل؟
تاريخياً وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي والعلمي الهائل، الذي تستخدمه أجهزتنا الاستخباراتية في عملها، إلا أنها كثيراً ما أخطأت التقدير والحساب· وفي تاريخ البشرية المعاصر كله، لم تتفوق أي دولة على أميركا، في إنفاق الأموال الطائلة واستخدام التقنيات المتطورة، في العمل التجسسي على الاتحاد السوفيتي السابق· غير أن كل المعلومات التي جمعتها وكالاتنا، لم تشر يوماً واحداً، إلى احتمال انهيار تلك الإمبراطورية الاشتراكية، حتى لحظة سقوطها، كما جاء في تصريح صحفي أدلى به إلى كاتب هذا المقال، ويليام إتش· ويبستر، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية في أيام الحرب الباردة!
استناداً على هذا التاريخ، فإنه ليس مستبعداً أن تكون المعلومات التي جمعتها أجهزتنا عن برامج صدام، خاطئة ومضللة من الأساس· وهناك عامل آخر يتمثل في أن غالبية الحروب الأميركية، تمكنت من إنجاز أهداف، فاقت كثيراً المبررات والدوافع التي شنت من أجلها تلك الحروب·غير أن اختلاف الرأي العام الأميركي حول ما أنجزته وحققته حربنا الأخيرة على العراق، لا يزال كبيراً ومثيراً للجدل العام· ومهما كان الخلاف، فإن النقطة الوحيدة التي يجب أن يجمع عليها الأميركيون، هي ما إذ