بالأمس ودّعنا شهر رمضان الكريم، شهر النور والثورة الروحية والحسية العالية، التي كنا نشعر بصداها طوال أيامه، ودعناه بكل الحب والشوق والأمل في أن نلقاه في العام القادم إن شاء الله·
ومثلما كان رمضان مدرسة إيمانية كبرى في حياتنا، تعلمنا فيها لغة الصبر والإرادة والعزيمة والقوة والتسامح والتواصل والرحمة، وتطهير النفس من شوائب الدنيا والارتقاء بفلسفتنا الروحية والإيمانية والأخلاقية بأعلى صورها، والثورة على رغبات النفس وشهواتها والتغلب على ضغوط الجسد ومتطلباته، ومداخل الشيطان وغوايته، بحيث نغير حياتنا ونتجه بها من جديد لتكون صورة مشابهة لما كنا عليه في أيام رمضان، فإن العيد هو ''مدرسة الفرح الكبرى'' وجائزة العبادة الصادقة والصوم الصادق بعد أن يخرج الصائم زكاة الفطر، ليستكمل بها تطهير نفسه وييسر بها أمر المحتاجين والفقراء، الذين قد يفتقدون قوت يومهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ''اغنوهم في هذا اليوم''، حتى يستقبلوا العيد وعندهم ما يكفيهم من المال الذي يجعلهم قادرين على المشاركة فيه بالفرحة والبهجة·
يقول عبدالله بن عباس رضى الله عنه: ''فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطُعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات''· وهكذا يربط الإسلام بين فلسفة الصوم وفلسفة الفرح، فلسفة العطاء وفلسفة التقوى بين الدين والدنيا، ليدخل الجميع أغنياء وفقراء صغاراً وكباراً نساء ورجالاً ومعهم كم هائل من الفرح والسرور بفرحة إتمام العبادة بحيث تعم هذه الفرحة كل أفراد المجتمع·
العيد في مضمونه هو الفرح الذي يتشكل في نفوسنا، ويشرق بقوة في عيون الأطفال وهم يأخذون العيدية، وهو جائزة الصدق في العبادة، وسمي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح متجدد· يقول الله تعالى: ''قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين''· المائدة:·114
لقد شرع الله للمسلمين عيدين في السنة، عيد الفطر الذي يأتي في نهاية شهر رمضان وعيد الأضحى الذي يأتي في نهاية شعائر الحج، وعيد في الأسبوع وهو يوم الجمعة من كل أسبوع، بحيث يرتبط المسلم بعبادة ربه في كل لحظة من حياته حتى في لحظات الترفيه المباحة· وقد ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ''كان لأهل الجاهلية يومان في كل سنة يلعبون فيهما، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: كان لكم يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما يوم الفطر ويوم الأضحى''·
وفي كتابه ''الإسلام دعوة عالمية'' يقول العقاد: ''إن من حكمة الأديان أن الأعياد الدينية الكبرى تأتي بعد فترة يمتحن فيها الإنسان في فضيلتين من ألزم الفضائل له في حياته الخاصة وحياته العامة، وهما التضحية وضبط النفس، ولعلهما ترجعان في مصدرهما إلى أصل واحد، وهو حرية الإرادة أو حرية الاختيار، فالأعياد كما نريدها هي مواسم فرح وما من شيء يحق للإنسان أن يغتبط به وينطوي من أجله على الفرح كما يغتبط بارتفاعه عن المرتبة الآلية وارتقائه عن الغريزة الحيوانية وبلوغه مرتبة الكرامة''·
أيام العيد فرصة عظيمة للتواصل والتقارب والتراحم ونبذ الخلافات وتصفية النفوس والاستمتاع ببهجة العيد·