ناقشت في مقال سابق مشكلة تقديم الدول لمصالحها الوطنية على المصالح العامة وأن ذلك مناف تماما لروح منظمة الأمم المتحدة ومتعارض مع أهدافها الأمر الذي يتسبب في إضعاف مصداقيتها وتحويلها إلى هيكل دون مضمون· وللتدليل على هذا الأمر دعونا نلقي نظرة على الطريقة التي تعاملت بها إدارة الرئيس بوش وسفيره جون بولتون مع الأمم المتحدة أثناء المفاوضات التي سبقت القمة الأخيرة للمنظمة الأممية· فمنذ قدومه إلى نيويورك لم يدخر بولتون وسعا في إثبات سمعته في ازدراء دور الأمم المتحدة والانتقاص من قيمتها· وهو لهذا اعتُبر المسؤول الرئيسي عن الوثيقة الهزيلة التي خرجت بها قمة الأمم المتحدة بعدما اختزلت إلى مجموعة من المبادئ العامة والفضفاضة، وهي التي كانت تتعهد في السابق بالتزامات محددة وملموسة·
وفي حماسته المفرطة لفرض وجهة النظر الأميركية قام بولتون بمهاجمة وثيقة الإصلاح التي أعدتها اللجان المختصة وطالب بإدخال ما لا يقل عن 750 تعديلا على تلك الوثيقة لإفراغها من مضمونها الإصلاحي ومطابقتها مع المصالح الأميركية الصرفة· وقد وصلت به الأمور أن تكلم بصراحة عن الإصلاحات المقبولة من قبل الولايات المتحدة وتلك التي لن تسمح بها أبدا· لكن مناقشاته الأيديولوجية كانت طافحة بالمفارقات حيث عارض بولتون إدراج أية إشارة تطالب الدول الأعضاء بمنع ''التحريض'' على ارتكاب الجرائم مشيرا إلى أن ذلك لا ينسجم مع البند الأول من الدستور الأميركي الذي يكفل حرية التعبير· وتأتي هذه المعارضة في الوقت الذي تتهم فيه أميركا وإسرائيل الفلسطينيين والإعلام العربي بتشجيع العداء تجاه الصهيونية·
وبالتأكيد لن يقبل بولتون استعمال ذات الحجج التي دافع بها عن حرية التعبير في أميركا لنصرة قضية الحريات في الدول العربية· وبالعكس من ذلك ضغط بولتون، وهو المعروف بمناصرته للمواقف الإسرائيلية المتشددة، في اتجاه تغيير وثيقة الإصلاح الأممية لتجنيب أفراد الجيشين الأميركي والإسرائيلي التعرض للمساءلة عندما تتسبب عملياتهما العسكرية في قتل المدنيين الأبرياء، حيث أصر على التفريق بين ''العمليات الإرهابية'' و''العمليات العسكرية''· غير أن الفرق يختفي، أو تنعدم أهميته عندما تكون النتيجة واحدة وهي قتل المدنيين العزل إما عن طريق الاستهداف المباشر، أو عن طريق العمليات العسكرية التي كان يعلم المسؤولون العسكريون أنها تشكل خطرا على حياة المدنيين· ولعل ما يجب أن يدركه السيد بولتون جيدا أنه إذا كان الهدف النهائي هو حماية المدنيين، فإنه يتعين علينا ألا نفرق بين أعمال العنف، كما يتعين علينا ألا ندين البعض ونجيز الآخر·
أما عن الموقف الذي تبنته إدارة بوش من الإرهاب فقد واجه معارضة قوية من قبل الدول النامية التي رأت في التعريف الذي تقدمت به واشنطن محاولة أخرى لتوظيف الإرهاب من أجل سحب البساط من المقاومة الوطنية التي تستهدف قوات الاحتلال كما يحصل حاليا في العراق وفلسطين· والأكثر من ذلك أن بولتون كان وراء محاولة إبعاد الالتزامات التي تعهدت بها دول العالم بشأن تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية والتنكر لها، حيث عارض في البداية تضمن الوثيقة لأية إشارة إلى الأهداف، علما بأنها لا ترمي سوى إلى خفض الفقر، والتقليص من المجاعة ووفيات الأطفال والحد من انتشار الأمراض الفتاكة، ثم القضاء على الأمية بحلول ·2015 وقد كاد يؤدي إصرار بولتون على معارضته لتلك الأهداف إلى إفشال القمة لولا تدخل وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي أعادت إدراج الأهداف الإنمائية للتنمية في الوثيقة وشددت على ضرورة الالتزام بها·
بالإضافة إلى ذلك عارض بولتون مبدأ ''واجب التدخل'' الذي يرخص للأمم المتحدة، وبخاصة مجلس الأمن التدخل العسكري الإنساني لوقف ارتكاب المجازر أينما كانت في العالم· وبالرغم من مساندة الأمين العام للأمم المتحدة وحكومات الدول الأوروبية والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان لهذا المبدأ، إلا أن إدارة بوش عارضته بشدة لأن من شأن هذا المبدأ، في حال تطبيقه، أن يحمي الفلسطينيين من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليهم·