تحصد مجتمعات عربية عدة الآن الثمار المرة التي بذرت نظم الحكم بذورها فيها عندما نزعت منها السياسة أو منعت ممارستها خارج الحزب الواحد الذي لم يلبث أن فقد بدوره طابعه السياسي، وأصبح جزءاً من المؤسسة الأمنية المهيمنة أو امتداداً لها· بدأ نزع السياسة من المجتمعات في بعض من أهم الدول العربية وأكثرها تأثيراً على الصعيد الإقليمي قبل نحو نصف قرن خلال عقد الخمسينيات في القرن الماضي· وها نحن الآن في مرحلة حصد الثمار المرة لهذه البذور·
وأحد هذه الثمار، وأكثرها مرارة، تراجع الانتماءات الحديثة التي يختارها المرء بعقله وإرادته أو بحكم مصالحه الاجتماعية والاقتصادية، وفي مقدمتها الانتماء الحزبي والنقابي· وحين يحدث ذلك، تتقدم وتزداد الانتماءات الأولية أو التقليدية التي يولد المرء بها ولا يختارها مثل الانتماء الديني والطائفي والعرقي والعائلي والعشائري· فها هي الانتماءات الأولية تتصدر الساحة بعد أن صارت هي الموجه الرئيس للأحداث وإن بدرجات متفاوتة من بلد إلى آخر وحسب اختلاف المدى الذي بلغه نزع السياسة ووصل إليه تدمير الانتماءات الحديثة·
فقد سقط العراق فريسة صراع طائفي حاد ونزاع عرقي أقل حدة فور انهيار نظام الحكم الذي نزع السياسة وبث الرعب في قلوب الناس· فلم تجد غالبيتهم الساحقة ملجأ إلا تكويناتهم الأولية يشعرون فيها بقليل من أمان مفقود ويحصلون من خلالها على مقادير متباينة من الحماية تجاه جبابرة سلطة غاشمة· فعندما تنتفي علاقة المواطنة في شقيها السياسي والقانوني ويصبح المرء رعية لا حقوق له، لا يمكن أن يتصرف باعتباره مواطناً ينتمي إلى دولة مؤسسات، وتصير عودته إلى انتمائه الأولي أمراً طبيعياً، وهذه بيئة ''مثالية'' لإنتاج صراعات حامية على خطوط هذه الانتماءات·
وفي الوقت الذي نتابع أحداث هذه الصراعات كل يوم دامية مؤلمة في العراق، نضع الأيدي على القلوب خوفاً مما يمكن أن يحدث في سوريا إذا اشتد الضغط على نظامها الحاكم الذي أصبح بعض من أهم أركان مؤسسته الأمنية النافذة قيد الاتهام في قضية اغتيال رفيق الحريري·
فقد نزع هذا النظام بدوره السياسة من المجتمع السوري، ولكن بدرجة أقل مما حدث في العراق· ولذلك لم يعد السوريون إلى انتماءاتهم الأولية بالحجم والعمق اللذين عاد بهما العراقيون إلى هذه الانتماءات· ومع ذلك فنشوب صراع سني- علوي هو أمر وارد في سوريا في حال انهيار نظام الحكم الحالي أو تفككه، كما أن اختلال ميزان القوى بين معارضيه لمصلحة جماعة ''الإخوان المسلمين'' يزيد خطر هذا الصراع حتى إذا كان حجمه وعمقه أقل من الصراع السني- الشيعي الراهن في العراق·
وبالرغم من أن نظام البعث في سوريا أقل قسوة من نظيره الذي انهار في العراق، فهناك نزعات انتقام يمكن أن تزيد خطر الصراع الطائفي· فعلى سبيل المثال قام بعض أبناء وأقارب الضحايا، وخصوصاً من الذين قتلوا في حماه، بمتابعة العناصر الذين تورطوا في قتلهم لمعرفة كيفية الوصول إليهم عندما يحين الأوان· ولم يضع رحيل بعض هذه العناصر حداً للمتابعة الهادفة إلى الانتقام، فقد وضع المشبعون بنزعة الثأر أبناء وأقارب لهم على قوائم المتابعة بدلاً منهم·
فهذا هو حصاد الهشيم ينذر بمأساة أخرى في سوريا بعد العراق، في الوقت الذي تبدو الصورة قاتمة على الصعيد العربي العام بعد أن انفجر نزاع طائفي جديد في مدينة الإسكندرية الساحلية في مصر التي كان مفترضاً أن نسيج مجتمعها أقوى مما يظهر الآن· فبالرغم من أن السياسة نُزعت من هذا المجتمع بدوره بعد ثورة ،1952 إلا أن نظام الحكم الذي فعل ذلك لم يقوض الحياة السياسية بشكل كامل ولم يرتكب جرائم تصفية جسدية بخلاف ما حدث في العراق وسوريا· كما أن السياسة بدأت تعود في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأ الانتقال من التنظيم السياسي الواحد إلى تعدد الأحزاب· ولكن هذا التعدد خضع إلى قيود مشددة وضعته تحت سيطرة محكمة حالت دون تفعيله على نحو يضع حداً للتعصب الديني الذي ظهر أول مؤشر واضح عليه في عام 1972 عندما نشب نزاع بين مسلمين ومسيحيين في حي الزاوية الحمراء في القاهرة·
ومنذ ذلك الوقت، وعلى امتداد أكثر من ثلاثة عقود، وقعت أحداث مشابهة في عدد من المناطق أديرت الأزمات التي ترتبت عليها بطرق تقليدية تؤدي إلى مصالحات شكلية أو إعلامية· وكان أخطر ما في الأمر هو قيام رجال دين من الجانبين إلى جانب جهاز الأمن بالدور الرئيس في نزع فتيل النزاعات التي نشبت واحتوائها في غياب عمل سياسي منهجي ومنظم بالمعنى الحديث للسياسة· فهذا المعنى ما زال ضعيفاً في مصر التي يمثل ابتعادها عن دائرة الصراعات التقليدية الدينية والطائفية والعرقية ضرورة للحد من خطر استشراء هذه الصراعات على الصعيد العربي· فوقوع مصر في براثن هذا النوع من الصراعات، ولو في نطاق محدود، يمكن أن يزيد المشهد العربي الراهن قتامة ويجعل المنطقة أكثر قابلية لانفجار أشد تدميراً· غير أن إطفاء نيران هذا النوع من الصراعات اللاسياسية ومنع نشوبها مجدداً يحتاج إلى عمل سياسي فاعل لم ت