بين محاكمة الرئيس العراقي السابق على جرائم كثيرة ارتكبها، بينها غزو الكويت الدولة العربية الجارة، و''الاشتباه'' بتورط النظام السوري في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، يدشن العالم العربي تقاليد لم يسبق أن مارسها في المجالين الحقوقي والقضائي· وفي الحالين لم يكن ذلك ممكناً من دون دور خارجي، إذ أن سلطة الاحتلال الأميركي موجودة في خلفية المحكمة العراقية وكواليسها، أما في الحال اللبنانية- السورية فلا أحد يمكنه أن يتصور أين كان سيكون التحقيق في الاغتيال لولا اللجنة الدولية التي أنشأها مجلس الأمن·
هناك طبعاً مؤيدون ومعارضون لكلتا العمليتين، والآراء ملوثة بالاعتبارات السياسية، الخاصة والفئوية، أكثر مما هي معنية بمسألة الحق والحقيقة وأعرافهما، وضرورة أن يسود القانون على الجميع·· البعض سيقول إن دولنا، المعقولة والرديئة، ليست دول مؤسسات، والبعض الآخر سيشرح بأن ضحالة ثقافة الحقوق نتيجة مباشرة لغياب المؤسسات· والأخطر أنه مع الوقت نضجت عقلية مستفيدة من هذا الوضع، فلا الحاكم يتوقع من المحكومين أن يتوقعوا محاسبة قانونية على ما يعتبر جرائم ومخالفات، ولا المحكومون يستطيعون تصور اليوم الذي يصبح فيه القانون فوق الجميع بمن فيهم الحاكم نفسه·
لذا اعتاد العراقيون في عهد الاستبداد على النمط الدموي الذي اتبعه النظام، حتى أصبحوا يتوقعون ردود فعله الأكثر شراً وشراسة، مختزنين النقمة والغضب والتوق للانتقام· لكن محاكمة الطاغية الآن لا تعني أن حكم القانون قد ساد، بل يبقى طموحاً في طورالتبلور· كذلك اعتاد اللبنانيون في عهد الهيمنة السورية على أن السياق الذي أقامه النظام الأمني جعل من الاغتيالات مجرد تطورات داخل ذلك السياق لا تلبث حدتها أن تخمد مع مضي أيام الحداد· ومع زوال الهيمنة وتقدم التحقيق الدولي يأمل اللبنانيون بأن يكون ما يشهدونه من اغتيالات بداية جديدة لدولتهم التي يفترض أن تكون قد تعلمت من تجربتها القاسية· لكن، هنا أيضاً، لا يعتبر التحقيق الدولي بعد الخطوة الحاسمة لسيادة القانون·
لم يحاول أي طرف خارجي، من أولئك الذين أبدوا في السنوات الأخيرة حرصاً على الحريات والديمقراطية في العالم العربي، أن يجري مراجعة دقيقة ونقدية وهادفة للدور الفاعل الذي لعبه الخارج في: 1- تعزيز الديكتاتوريات العربية بأنواعها كافة، الشديدة والمتوسطة والخفيفة، المقهورة والمتنورة والمموهة، التي أنتجت في النهاية أنظمة قضائية متشابهة في محدوديتها أو اضطرارها للتكيف مع الأمر الواقع· 2- إدامة وحماية انتهاك القانون الدولي وتعطيل الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية في ما يتعلق بالشرق الأوسط وقضية فلسطين··· فالظلم الدولي جعل معظم الحكام يعتبرون أن تغييب القانون داخل بلدانهم مسألة هي الأخرى في السياق العام· ولم يحصل أي تحسن يذكر على تطبيقات القانون الدولي في المنطقة لتفتح فعلاً ملفات الإصلاح الداخلي وأبوابه·
لذلك طرحت أسئلة مشروعة منها مثلاً: على رغم وجوب كشف الحقيقة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري حتى لو قادت إلى اتهام مسؤولين في النظام السوري، لماذا لم يبد المجتمع الدولي الحماسة نفسها إزاء مئات الجرائم العارية التي ارتكبتها حكومة إسرائيل، ولماذا يمنع القضاء في أي دولة غربية من التعرض لمجرمي الحرب الإسرائيليين؟ ومن تلك الأسئلة أيضاً: طالما أن صدام حسين ارتكب معظم جرائمه في الفترة التي كان يتمتع خلالها بـ''صداقة'' الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب، فلماذا عومل آنذاك كرئيس دولة ويراد له اليوم أن يحاكم كرئيس عصابة؟ لاشك أن الهدف هو إبعاد المحاكمة عن محاكمة السياسات، لأن هذه ستصيب بشظاياها الأطراف الخارجية تحديداً الأميركية التي تدير محاكمته من وراء الستار·
لاشك أن العدالة توجب مثل هذه المحاكمة للرئيس العراقي السابق، كما تحتم البحث عن قتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق· لكن الأهم أن تكون المحاكم والتحقيق مساهمتين حقيقيتين في إعلاء شأن حكم القانون ليس في العراق ولبنان فحسب بل في عموم المنطقة·