حتى الآن لم تجرِ عملية إصلاح حقيقية للتعليم في السعودية، كل ما يحصل هو حذف بعض الجمل المسيئة للآخرين، من كتب الدين والعلوم الإنسانية، وهي جمل متنافية مع روح التسامح الإسلامي التي نشأنا عليها وبها قامت المملكة وحققت إنجازات عدة، ووضعتها على الخريطة كدولة مؤثرة في العالم الحر، وكقوة اعتدال في العالم الإسلامي، وذلك قبل أن تتسلل علينا قوى منغلقة في غفلة منا، تركت آثارها على مناهجنا التعليمية وإعلامنا وعلاقتنا الخارجية، بل حتى أثرت على جمال وتناسق نسيج مجتمعنا الذي تمناه المؤسسون متحدا ومتوافقا فكريا، مع احتفاظه بتعددية تثري تنوعه ووحدته الوطنية·
والمطلوب اليوم هو عودة للروح السابقة المنفتحة على الآخر والمتسامحة، والبناء عليها وفق المستجدات العملية الطارئة والواقع السياسي والاجتماعي الذي يدفعنا أكثر إلى مزيد من الانفتاح والتكامل مع عالم حر سعيد يتوق مواطنوه إلى حياة أفضل وسلام عالمي، وهذا لن يكون إلا بنقلة شاملة في التعليم ومناهجه ووسائله ووسائطه وليس مجرد حذف وإضافة، ونقل من النص إلى الهوامش وإصرار على تلك الأفكار المنغلقة وكأنها مكسب أو أصل أصيل من الدين، بينما هي في الحقيقة دخيلة· وأتمنى لو يسند لفريق عمل البحث والمقارنة في حال المناهج الدينية والاجتماعية خاصة عام 90 هجرية وما هي عليه اليوم، وليضع الباحث ميزانا في قدر المعلومات عن العالم وحضارته التي كان يتلقاها الطالب يوم ذاك وما يتلقاه اليوم، ومقدار التسامح بينهما، وسوف تذهل النتيجة من يطلع على البحث، ويتضح له قدر الخراب الذي حصل·
لقد شرعت وزارة التربية والتعليم مشكورة بإسناد عملية تطوير في مناهج الرياضيات والعلوم لشركة وطنية والتي ''أخذتها من قاصرها'' وأسندت المهمة إلى شركة بريطانية مشهود لها بالخبرة في مجال المناهج التعليمية الحديثة· والغالب أن نتيجة التطوير ستكون مثيرة ومفيدة لأبنائنا، ولعلهم يعتقدون أن إصلاح العلوم والرياضيات كفيل بإفراز مخرجات تعليمية مناسبة لسوق العمل، بينما الحقيقة أن العلوم الدينية والإنسانية والاجتماعية، لا تقل أهمية فهي التي تحكم أخلاقيات التعامل المستقبلية لدى الطالب، والإصلاح في مناهجها لا يزال يراوح مكانه، بينما المطلوب أن يكون مكملا أو مساندا لعملية تطوير مناهج العلوم والرياضيات· فمن الجيد أن يكون المحرك لعملية تطوير التعليم هو تخريج كفاءات أفضل لسوق العمل، تثير إغراء قطاع الأعمال، يجري خلفها، يغريها بالرواتب والمزايا، لا يتعامل مع توظيفها وكأنه عبء وواجب وطني، بينما هو في الحقيقة يتمنى لو يغض وزير العمل عنه الطرف ويمنحه مزيدا من التأشيرات كي يستقدم خريجين مكنهم نظام تعليمي أفضل أن يكونوا أكفأ من أبناء وطنه·
لقد كانت مناهج التاريخ التي درستها قبل أكثر من عقدين أكثر انفتاحا مما يدرسه أبنائي اليوم، بينما هم الآن أحوج إلى مزيد من الانفتاح، وهم يرون العالم مشرعا أبوابه عليهم أكثر مما كان يفعل في زماننا· أذكر أنني درست حركة الإصلاح الديني في أوروبا، ولا زلت أتذكر حوارات حرة مع أستاذي في ثانوية طيبة حول الحركة الكالفينية التي جاهدت لتنقية الكنيسة الأوروبية من الشوائب والبدع وخرافات الكهنة، عندما قارنتها بحركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، لم يغضب مني الأستاذ أحمد الرويتي إن لم تخني الذاكرة، بل ناقشني وشرح لي أوجه الاختلاف والتوافق بين الحركتين· درست أيضا حركة مارتن لوثر، وفهمت فيما بعد لمَ كانت الدول الأوروبية التي انتصرت فيها البروتستانتية وحركات الإصلاح الديني أقدر على النهضة من تلك التي ظلت على قديم الكنيسة· درسنا الثورة الفرنسية وتأثيرها على الفكر السياسي العالمي، والكشوف الجغرافية، والثورة الصناعية، ونشوء الحركات القومية، ولم يغفل المنهج تأثير هذا كله على عالمنا، لم يغب عمن وضع المنهج يومها أن يعلمنا أيضا حركات الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، ليس فقط حركة الشيخ بن عبدالوهاب بل أذكر أننا درسنا الحركة السنوسية أيضا، وربما الحركة المهدية في السودان·
خريج الثانوية اليوم لا يدرس أي شيء من هذا، يخرج وهو يعتقد أن العالم يدور من حوله، يستهلك منتجات العالم وثقافته وهو محتار كيف يتعامل معها، لو شعر بالرضا واعترف بتميزها سيقع في تأنيب الضمير، ولو قال إنها ثقافة غير موفقة، في طريقها إلى زوال كما علمه أستاذه المؤدلج لما صدق نفسه·
إنه بحاجة إلى أن يدرس تاريخ العولمة، وتحولها من حركة تبحث عن سلام لعالم اكتوى بالحروب بعد الحرب العالمية الأولى إلى حركة معنية بالاقتصاد والتجارة التي تبين أنها أساس الحروب، فهل يستطيع مسؤول عن المناهج في الوزارة أن يوصي بوضع منهج كهذا، يساهم في إعداد جيل منفتح على العالم بينما تستعد المملكة أن تدخل في عضوية أهم منظمة دولية هي منظمة التجارة العالمية؟
إن الأجيال السعودية السابقة هي التي صنعت النهضة التي نعيشها اليوم، كان أحدهم يعمل ليل نهار مع الأميركيين في الظهران، يضحك معهم، ويسمر معهم، يدعوهم لمناسباته ويحضر مناسباتهم،