في زيارته الأخيرة للعراق، تحدث الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى عن العراق الجديد، عراق تغيرت فيه القوى السياسية والاجتماعية تغيراً كبيراً، وانتقل ميزان القوة جنوباً وشمالاً بعيداً عن الوسط السني التقليدي والذي سيطر على الدولة العراقية منذ عشرينيات القرن الماضي· وصورة العراق الجديد، العراق الشيعي والكردي، لا السني والعربي، تتعزز من خلال مجموعة من الاختبارات من ضمنها الانتخابات السابقة والفوز الكبير للائتلاف الشيعي والاستفتاء الأخير على الدستور والذي لم تتمكن المعارضة السنية من حشد الأصوات الكافية لمنع تبنيه· العراق الجديد إذاً عراق شيعي في معظمه وكردي في الشمال، وقد يكون غازي الياور آخر رئيس سني عربي للعراق·
المؤسف في تطورات الساحة العراقية الداخلية هذا الفرز الطائفي البشع، وكأنك اليوم لا تستطيع أن تقول: عراقي وكفى، بل عليك أن تصف الطائفة والفئة الإثنية، وحتى في الحديث اليومي العابر، والمؤسف أن مثل هذا الفرز يحصل في أحد أكثر المجتمعات العربية تمدناً وعراقة· وهذه النزعة الطائفية تبدو أعمق من وصف البعض لها، فما الذي يدفع البعض لاستهداف الطيارين السابقين في الجيش العراقي، أو نسف تمثال الخليفة العباسي العظيم ''أبو جعفر المنصور''، وربط ذلك بقمعه لتمرد محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم في السنة الميلادية 762؟
وفي تقبلنا التدريجي لهذا العراق الشيعي الجديد ندرك أيضاً أنه متنوع، وأن هذا التنوع الفكري والإيديولوجي يشمل الشيعة حيث تضم هذه الطائفة في صفوفها توجهات عديدة· ولاشك أن المرحلة الحالية مرحلة تتبلور طائفياً وبامتياز، إلا أن دورنا ودور العديد من المؤمنين بالمجتمع المدني في العراق يكمن في الخروج من هذه المرحلة الطائفية· وأستعيد عبارة الأستاذ محمد حسنين هيكل في إحدى مقابلاته العديدة بقناة ''الجزيرة'' الإخبارية، أن المشكلة لا تكمن في الطائفة بل هي في الطائفية· ومن هذا المنطلق لا خلاف أن العراق الجديد يمثل الشيعة الأغلبية فيه كطائفة، ولكن بالمقابل لابد من الخروج من النفق الطائفي والمقاربات التي لا ترى البعد الوطني العام·
ومع سيطرة التيارات الدينية الشيعية على الساحة العراقية، نجد أن النفوذ الإيراني في العراق بلغ درجة تاريخية غير مسبوقة، ومثل هذه الخلفية شكلت إحدى النقاط الخلافية في مسودة الدستور العراقي الذي أجيز مؤخراً، وتتخوف بعض الأطراف من تبني العراق لنموذج ولاية الفقيه الإيراني، وهو بلاشك خوف مبالغ فيه مع أن نفوذ المؤسسة الدينية الشيعية سيبقى قوياً في الفترة القادمة، حيث تبدو التيارات المدنية محجمة في خضم الأجواء الطائفية المسيطرة، كما أن حقيقة التغلغل المالي والاستخباراتي الإيراني في اللعبة السياسية العراقية لا يمكن إغفاله في أية مقاربة تستشرف مستقبل العراق، وستبقى إيران لاعباً رئيسياً في المستقبل المنظور، ومع هذا أعتقد أن انحسار الفرز الطائفي لابد وأن يأتي معه توجه وطني، وهو بالطبيعة سيشمل الشيعة كما يشمل غيرهم، ومثل هذا التوجه سيحرص على استقلال العراق من النفوذ السياسي الإيراني، ولكنها وبكل بساطة مرحلة لم نصل إليها·
ومع أن العراق الجديد عراق شيعي في أغلبه إلا أنه عراق متنوع، ومتى ما أدرك السنة العرب أنهم أقلية ولكنهم أقلية مهمة، سيزيد تأثيرهم السياسي في التطور السياسي للعراق الجديد· فالسياسات الرافضة والتأخر في دخول الساحة السياسية وعدم بروز قيادات مؤثرة وعصرية، همّش دورهم إلى درجة كبيرة، وبرغم أن الاستفتاء الأخير يبين حجمهم الحقيقي إلا أن دخولهم اللعبة السياسية مهم وضروري كي يخرج العراق من الحسابات الطائفية والمسيطرة عليه في الفترة القادمة، وفي هذا الصدد يبقى دور السنة العرب مستقبلاً أهم من الدور الكردي، والسبب الاستقلال الذاتي للوضع الكردي في الشمال العراقي·
العراق الشيعي حقيقة لابد من تقبلها، وهي حقيقة ترسخت من خلال صناديق الاقتراع، ويبقى أن تنوع العراق وحجم الوجود السني العربي والكردي كفيل بخلق توازن مطلوب في الفترة القادمة بعيداً عن النموذج الإيراني، كما أن مثل هذا التوازن قد يقود إلى تجربة عربية ديمقراطية دستورية تلد من هذا العنف الغالب وتؤثر في محيط عربي متخثر، ولاشك أن وجود جذور قوية للمجتمع المدني في العراق يعزز من هذا التوجه، فالمشكلة لا تكمن في الطائفة وحجمها ولكنها حتماً في الطائفية وتداعياتها·