استعداداً لمواكب الاحتجاج التي نظمتها سوريا يوم الاثنين الماضي، فقد أقيمت منصة عملاقة في وسط العاصمة دمشق، بينما ازدانت الشوارع بالآلاف من صور الرئيس بشار الأسد، وعلمي سوريا وحزب البعث الحاكم· وفي إطار الاستعدادات ذاتها، منحت جميع المدارس السورية عطلة من الدراسة في ذلك اليوم، بينما جرى ترحيل آلاف الأطفال إلى قلب العاصمة من مختلف المدن والضواحي المحيطة بالعاصمة· إلى ذلك تضافرت جهود التلفزيون وشركة خدمات الهواتف الجوالة التي ترعاها الدولة، في تنظيم حملة استنفار واسعة النطاق، لحث المواطنين على المشاركة في موكب الاحتجاج المذكور ضد تقرير المحقق الدولي الألماني ديتليف ميليس، وضد الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية· استخدمت في هذه الحملة خدمة الرسائل الهاتفية القصيرة، على نحو مكثف وفاعل·
وكما هو واضح، فإن المقصود من مواكب الاحتجاج هذه، التعبير عن الرفض الشعبي السوري لما جاء في تقرير ميليس، عن ضلوع مسؤولين سوريين كبار، إلى جانب أجهزة مخابراتها في جريمة اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري· هذا هو الوجه الظاهر من المواكب هذه· أما الوجه الآخر فإن القصد منه هو استعراض عضلات الحكومة السورية، وإظهارها بمظهر القوة والمصداقية، واتساع شعبيتها في أوساط المواطنين السوريين· ومما قصد إليه تلميحاً أن تبث فضائيات العالم وتلفزيوناته جميعها صور الوجه المشرق والنضر للشعب السوري كله·
غير أن الأشياء ليست كما تبدو دائماً· فقد أذاعت نشرات الأنباء المحلية السورية، أن عدد المشاركين في تلك المواكب بلغ نحو مليون مشارك· إلا أن الإحصاءات الأكثر دقة تقول، إن عدد الحضور والمشاركين لم يتجاوز العشرة آلاف، معظمهم من تلاميذ وطلاب المدارس الذين أجبروا على المشاركة· كما كان مقدراً أن تستمر الخطب الرئيسية حتى الثانية ظهراً، إلا أن معظم الحضور كانوا قد انصرفوا عنها بحلول الساعة العاشرة والنصف صباحاً، إلى مشاغل وأنشطة حياتية أخرى· وبحلول منتصف النهار كان الميدان الذي نظمت فيه المواكب، قد خلا تقريباً إلا من قليل من المتحمسين الذين واصلوا التلويح بالرايات واللافتات المعادية للولايات المتحدة·
وفي الواقع فقد كان ذلك الموكب، انعكاساً لشعور عام بالإحباط إزاء نظام البعث الحاكم· كما يبدي الكثير من السوريين غضباً إزاء مقتل الحريري، وما ترتب عنه من انسحاب مخز ومهين للقوات السورية من لبنان في أبريل الماضي· أما الاقتصاد السوري فيعاني آلام ضربتين موجعتين وجهتا إليه مؤخراً: خسارته للبقرة اللبنانية الحلوب، إلى جانب فقدانه لما كانت تدره عليه عائدات النفط العراقي، المهرب إليه في عهد صدام حسين· ولدى صعوده إلى سدة الحكم، كان الشارع السوري قد استبشر خيراً بقدوم بشار الأسد، بصفته قائداً إصلاحياً ديمقراطياً، قدم وعوداً كبيرة وملهمة لشعبه نحو التغيير· إلا أن الشارع السوري يهمس اليوم برغبته سراً في أن يطل فجر يوم جديد، يحمل رياح التغيير الفعلي إلى بلادهم·
لكن ولكي نكون واضحين وصريحين كل الصراحة·· هل يعني تململ الشارع السوري من النظام الحالي، انحيازه وتأييده للغرب؟ والإجابة أن هناك غضباً عارماً في الشارع السوري من تقرير ميليس، الذي نظر إليه على أنه مدفوع بدوافع سياسية، لا صلة لها بالتحقيق الجنائي· وإن كان التقرير قد أشار إلى تورط مسؤولين كبار في النظام الحالي، في حادثة مصرع الحريري، إلا أنه تجاوز ذلك الحد، إلى التصغير من شأن الحكومة السورية والإساءة الصريحة إليها ونعتها بأنها حكومة إجرامية! وسواء صح الظن أم لم يصح، فما أكثر السوريين الذين رأوا في تقرير ميليس، محاولة مكشوفة دبرتها ورعتها الولايات المتحدة الأميركية لتبرير العدوان العسكري· ومن بين ما لمحته من لافتات معادية لأميركا في الموكب المذكور، رسم كاريكاتيري للرئيس بوش، وهو يمسك بخيوط دمية تجسد صورة المحقق الألماني ميليس! وهكذا تختلط مشاعر الإحباط إزاء النظام لدى السوريين، بمشاعر الغضب والعداء والخوف من ''العم سام''· وفيما تتالى من أحداث وتطورات على إثر نشر التقرير المذكور، اشتدت حمى التوتر ما بين واشنطن ودمشق، نتيجة لاتهام واشنطن لدمشق بالتهاون في وقف تسرب المقاتلين الإرهابيين إلى العراق، وكذلك تصريح بوش حول عدم استبعاده للعمل العسكري، فيما لو لمن تتعاون دمشق بما يكفي، مع فريق التحقيقات الدولي المكلف باستجلاء ملابسات مصرع الحريري·
وفوق هذا كله، فإن السوريين لا يريدون لبلادهم أن تتحول إلى عراق آخر، لا سيما وأن الغزو الأميركي، لا يبدو لهم أكثر من كونه عدواناً آثماً وملطخاً بالدماء، وأنه بعيد كل البعد عن أن يكون حملة لتحرير أمة، أو المضي بها نحو التحول الديمقراطي· وقد حملت لافتات الموكب وشعاراته، جملاً صريحة بهذا المعنى'' نحن لسنا العراق'' و ''ابق بعيداً عنا يا أميركا''· وهذه وغيرها شعارات تعبر عن رفض السوريين لتعرض بلادهم للاحتلال، على الرغم من أنها لا تخفي ما يخالجهم من رغبة وتطلع إلى التغيير السياسي·
غير أن الكثير من ا