ترددت كثيراً قبل أن أخوض في موضوع هذا المقال، ليس بسبب حساسيته، وكثرة ما كتب فيه وحوله من المقالات والدراسات والأبحاث، وليس بسبب عدم أهميته، بل لأن أحداً لا يريد أن يقرأ ما يكتب أو ينشر؛ وإذا صادف وقرأه أحدهم فإنه لا يحرك ساكناً بيد أن القضية تتفاقم يوماً بعد يوم، فهو موضوع مرتبط بمستقبل مواطني دول الخليج بصورة مباشرة، وليس بسبب مناسبة شهر رمضان الذي يعتكف فيه الجميع أمام شاشات التلفزيون لمتابعة ''الملهاة الكبرى'' التي تسمى الفضائيات ويتسمرون أمام مسلسلات وأفلام وبرامج تضر أكثر مما تفيد، وليس السبب هو ما يعانيه العالم بأسره اليوم من أمراض وبائية حملتها لنا الطيور والدواب، ما بين أنفلونزا الدجاج، وحصبة البط، وجنون البقر، وهبل الخرفان، وخرف الماعز، وزهايمر الإبل·
ولكن السبب الرئيس يكمن في الظروف التي تمر بها الدول العربية والإسلامية من أزمات ومآزق وتراجع في المكانة والدور، وانشغال المواطن العربي بعيداً عن هذه الظروف بالتسلية والترفيه، والإصابة بحمى الأسهم وحسابات المكسب والخسارة، ربما ليتفادى التفكير في المأزق العربي المزمن الذي ليس له مخرج، ويهرب مع نفسه بعيداً عن الاتهامات التي تنهمر عليه مثل السيل العارم، من إرهابي إلى متطرف، إلى همجمي، إلى قاتل بلا شفقة أو رحمة، إلى عدو للحضارة الإنسانية، إلى التخلف·
فأثناء انشغال الخليج بالهموم العربية الكبرى المزمنة مثل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والصراع مع الإرهاب، والهيمنة الأميركية، والأزمة العراقية المستحكمة والمستفحلة، والجنون النووي الإيراني، ومطرقة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتراجع زمن التنمية الشاملة، والحاجة إلى مواجهة التحديات المتربصة بمستقبل دول الخليج وعلى رأسها قضية انهيار التركيبة السكانية وما تحمله من تهديدات ومخاطر أمنية، وما تؤثر به من تداعيات سلبية ستدفع ثمنها الأجيال الحالية والمستقبلية·
ففي دراسة حديثة جداً قدرت نسبة الوافدين إلى المواطنين في دول الخليج في أفضل حالاتها بأكثر من النصف، وهي على النحو التالي: في كل من الإمارات العربية المتحدة وقطر تصل النسبة إلى 86%، والكويت 81%، وسلطنة عمان 79%، ومملكة البحرين 59%، والمملكة العربية السعودية 51%·
وهذه البيانات المنشورة حديثاً ليست جديدة، فهي معروفة لمعظم المسؤولين والمواطنين، والكل يحاول إيجاد حل ولكن النتيجة غير مرضية، وهذا يرجع إلى صعوبة التوصيف الدقيق للمشكلة من الجهات المعنية جميعها من جانب، وإلى عدم تضافر جهودهم جميعاً لحلها من جانب آخر·
فللمشكلة ثلاثة مستويات، كل منها يتحمل مسؤولية تفاقمها، المستوى الأول هو الحكومات، والثاني المجتمع، والثالث المواطن الخليجي نفسه·
فالحكومات لم تصدر التشريعات والقوانين المنظمة للعمل بصورة تضمن الحد من العمالة الهامشية أو زيادتها عن الحد غير المرغوب فيه دون مبرر، وإذا أصدرتها فهناك قرارات وزارية تحمل استثناءات خطيرة تخترق التشريعات لإرضاء بعض المسؤولين أصحاب الأنشطة التجارية أو رجال الأعمال أصحاب النفوذ و''الواصلين'' الذين قال بضعهم يوماً عبارة مشهورة ''إن القوانين خلقت لتخترق''، وإذا لم تكن هناك استثناءات ومحسوبيات فإنه عادة لا توجد آلية عملية وواقعية لضمان التطبيق الدقيق للقوانين والتشريعات·
ولا يقف حد مسؤولية الحكومات في دول الخليج المعنية عند سوق العمل، والحاجة إلى تحقيق التوازن بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، بل يجب أن يكون نظرها أبعد من ذلك، فسوق ''الزواج'' مثلاً له دور كبير في الحفاظ على توازن التركيبة السكانية، ونقصد به الزواج بقصد العمل، وليس ببعيد ما نشرته إحدى الصحف المحلية في إحدى دولنا الخليجية لإعلان عن أجنبية تطلب زوجاً صناعة خليجية أصلية وليس وارد ''تايوان''، لتتزوجه وتمنحه ''50 ألف روبية''، ولم يتساءل أحد عن السبب، إلا أن ''المعرسين'' من كل الأعمار كانوا مستعدين لتقديم الخدمة·
وإذا كان هذا حال الحكومات فما بالنا بالمجتمع الخليجي الذي يتعامل بصورة يومية مع مآسي التركيبة السكانية المختلة ولا يحرك ساكناً، فسطوة المال، والجري وراء الثراء أعمى عيون الكثيرين؛ فيما بين تجارة التأشيرات، والكفالات الوهمية، والتوطين الصوري، والبطالة المقنعة، والأنشطة التجارية التي تحتكرها فئة من الوافدين خاصة ذات الجنسيات الآسيوية·
فمعظم المجتمعات الخليجية باتت تحلم بالثراء والرفاهية على حساب الأمن الاجتماعي، والهوية الوطنية، وضياع التقاليد والأعراف، وتراجع المبادئ والقيم، وللأسف لم يلمهم أحد، ولم تكن هناك توعية كافية بتأثير الخلل في توازن التركيبة السكانية وتداعياتها على مصالحهم ومستقبلهم، قبل أن تؤثر على غيرهم·
إنه خلل مثل الطوفان والأعاصير يكتسح أمامه الأخضر واليابس، يشارك فيه المواطن بسلوكه وتصرفاته، وعدم إدراكه لأبعاد الخطر المتربص به، خاصة أنه يتمسك بوظيفة معينة تحمل قدراً من الوجاهة الاجتماعية، ويطلب راتباً مناسباً، ويسعى للحصول على امتيازات خاصة تميزه