ركّزت التحليلات بعد صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية على ''المرحلة الجديدة'' التي أدخل التقرير فيها سوريا ولبنان· والواقع أنه من حيث ما تفكّر به العامة منذ اغتيال الرئيس الحريري، ليس هناك جديدٌ كثيرٌ في التقرير· إذ إنّ التقرير يتهم النظام الأمني أو الأجهزة الأمنية في سوريا ولبنان· وهذا الذي اعتقده كثيرون منذ شهور· الجديد أتى في بعض التفاصيل، إذ إنني ما توقّعتُ مثلاً أن يكون للأحباش هذا الدور البارز في عملية الاغتيال· والأمر كذلك بالنسبة لجماعة أحمد جبريل· بيد أنّ الجديد هو طريقة المقاربة· فالتقرير لا يعتبر الجريمة فرديةً أو مباشرة؛ بل يعتبرها نتيجة مؤامرةٍ ومخطَّطاً لها من جهةٍ عليا تملك إمكانياتٍ وسيطرة· وبذلك انصرف مركز الثِقَل عن الأفراد المنفّذين- باعتبارهم أدوات- إلى المخطّطين وصانعي أو واضعي المؤامرة· وتترتب على هذه المقاربة أو هذا الاستنتاج عدة أمور؛ الأول أنّ الجريمة جريمةٌ سياسيةٌ كبرى قامت بها أجهزة رسمية، وما قام بها أفراد· وفرقٌ بين الجريمة السياسية من جهة، وأن يقومَ فردٌ باغتيال سياسيٍ كبيرٍ من جهةٍ ثانية· ولذلك يكون التركيز في الحالات الفردية على المنفّذين، أي الفرد أو الأفراد، ويصبح ضرورياً إيجاد الأدلة والشهود على اقترافهم الجريمة التي تكون البداية والنهاية فيها: الوصول إلى إدانة القاتل! وفي الحالة التي نحن فيها، نريد أيضاً الوصول إلى إدانة القاتل، لكنه هنا ليس فرداً بل هو جهة· ولهذا يصبح الأفراد المنفّذون أدواتٍ، وليسوا أساسيين في العملية· ومن هنا فإنّ ذهاب عدة جهاتٍ لضعف التقرير لأنه لم يَدِن الأفراد الذين سمّاهم بأدلةٍ دامغةٍ، استنتاجٌ لا طائلَ من ورائه؛ إذ إنّ هؤلاء أدوات تنفيذية، من الصعب التوصل لكشفهم نهائياً إلاّ بالعودة للرأس المدبِّر الذي يعرف أفضل من غيره كيف دبَّر، وَمَن استخدم· والأمر الثاني: أنه استناداً لذلك؛ فإنّ الضغوط انصبّت وستنصبّ على سوريا، وليس من المعروف حتى الآن كيف ستتجه: هل باتجاه تغيير كبير أو باتجاه إجراءات تأديبية فقط· فالمشكلةُ أنَّ الأميركيين بينهم وبين النظام السوري نزاعٌ طويل وعلى عدة أمور أهمُّها العراق· ولذلك دأبوا على التهديد بعمل عسكري ضد سوريا، ودأب المصريون والسعوديون على التحذير من ذلك خشية الفوضى، وضياع بلد عربي آخر بعد العراق· أمَا وقد صدر التقرير فعند الأميركيين (والفرنسيين والبريطانيين ·· الخ) مستمسَكٌ آخر ضد النظام السوري· ويتراوح الأمر الآن بعد المناقشات بمجلس الأمن، وعودة المجلس للاجتماع يوم الاثنين في 31/10 على مستوى وزراء الخارجية؛ بين فرض العقوبات أو التهديد بفرضها إنْ لم يسلّم النظام السوري الأشخاص المذكورين في التقرير شهادةً أو اشتباهاً· والأمر الثالث: الآثار على المستوى اللبناني· إذ لم يَعُدْ ممكناً التسليم لرئيس الجمهورية بالبقاء في منصبه، بعد القبض على قادة الأجهزة الأمنية ومنهم مَنْ هو قريبٌ جداً منه، ثم ما كشفه التقرير عن اتصال أحد المشتبه بهم بالرئيس نفسه قبل الحادثة بدقائق· لكنْ دون ذلك صعوبات· فالمسيحيون غيرُ مجمعين؛ وبخاصةٍ الجنرال عون الذي يطمعُ برئاسة الجمهورية، ويتمسك بلحود انتظاراً لضمانِها· ثم إنّ ''حزب الله'' ما يزال يعتبر لحود خطاً أولَ للدفاع عنه، وهو يشترك في ذلك مع سوريا· وما لم يتفق النظام السوري مع الدول الكبرى على تسوية، فلا يُنتظَرُ أن يتخلَّى عن لحود، وكذلك ''حزب الله''· ومع أنّ تقرير ميليس أفاد في مسألة الاتصال الهاتفي؛ لكنّ تمديد التحقيقات كأنما مَدَّد الهدنة للحود أيضاً· لكنْ مع استمرار التحقيقات، وبقاء لحود؛ فإنّ التجاذُبات ستستمرُّ وتتفاقمُ، ولا تعودُ الحياة السياسية أو الاقتصادية إلى طبيعتها إلاّ بانفراجٍ للجهتين: لجهة إقالة رئيس الجمهورية، ولجهة وصول التحقيقات إلى مرحلة المحاكمة في محكمةٍ دولية خاصة· والذي يبدو الآن أقرب وإن لم يكن أسهل، دفع رئيس الجمهورية للاستقالة، لأسبابٍ سياسيةٍ تتصل بالتمديد، وتتصل بإزالة النفوذ السوري من لبنان، دونما حاجةٍ للانتظار وإدانته بأي تهمة·
لن تنتهي متاعبُ لبنان طبعاً بإدانة سوريا أو إدانة الذين اغتالوا الحريري، أو إقالة رئيس الجمهورية· فالدَين البالغُ 40 مليار دولار باق، والحياة السياسية اللبنانية المفككة باقية· وما استطاع اللبنانيون الإجماع حتى على خروج السوريين· والملفّات التي تركها السوريون أو لم يتركوها هي على التهابها وحرارتها: السلاح في المخيمات الفلسطينية وخارجها، وسلاح ''حزب الله''، والتنظيمات السرية التي نفذت التفجيرات وأعمال الاغتيال ·
وكانت حكومة فؤاد السنيورة قد بحثت عن مخرجين للأمن والاقتصاد· المخرج الأمني بتحسين العلاقات مع سوريا لفتح الحدود، ولتوقيف أعمال التفجير والاغتيال باطمئنان السوريين إلى عدم عداء النظام اللبناني لهم· بيد أن تقرير ميليس من قبل ومن بعد، ترك آثاراً سلبيةً كبيرةً على العلاقات، تمثلت في المقاطعة للسنيورة من جانب المسؤولين السوريين، وفي حملةٍ شعواء تشنُّها ا