على الرغم من مرور 60 عاما على مأساة هيروشيما ونجازاكي، فإن شبح الطاقة النووية لازال يخيم على العالم· فالطاقة النووية بصفة عامة سكنت ماضينا وهي تجثم بظلها الآن على حاضرنا، وسوف تزداد جثوما على مستقبلنا، وستظل تغذي صناعاتنا، ومخاوفنا أيضا·
وهناك جائزتا نوبل تم إعلان أسماء الفائزين بهما، تقولان لنا الكثير عن الحضور الكثيف والمهيمن للطاقة النووية· ففي الأسبوع الماضي ذهبت جائزة نوبل للسلام للمصري محمد البرادعي المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي كان قد تحول إلى شخصية مشهورة، منذ ثلاث سنوات تقريباً، عندما عارض ادعاءات إدارة بوش حول حيازة العراق لأسلحة دمار شامل· ومما لاشك أن مناوأته لأميركا كانت سببا من الأسباب التي ألهمت لجنة نوبل لمنحه الجائزة، على الرغم من أن اللجنة قد قالت في بيان أسباب منح الجائزة إنها تمنحها له كما تمنحها في نفس الوقت للوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يرأسها·
وعلاوة على ذلك ذهبت جائزة نوبل في الاقتصاد إلى ''توماس شيلينج وروبرت أومان'' وكل منهما كان يدعو إلى ما يعرف باسم ''نظرية اللعبة'' وهي عبارة عن مقاربة تعتمد على علم الرياضيات وتستخدم لتوضيح الخيارات التي تواجهها الدول والبلدان، من خلال تجربتها على تشكيلة متنوعة من المواقف من أبرزها اللجوء، أو عدم اللجوء، إلى استخدام الأسلحة النووية·
ومن المؤكد أن العديد من الناس يتشوقون إلى إلغاء استخدام القنابل النووية بشكل تام، ولكن أصحاب العقول الواقعية في هذا العالم يعرفون أن التشوق والتمني شيء، والوضع الحقيقي على الأرض شيء آخر، وبالتالي فإنهم يرون أن أقصى ما يمكن عمله في هذا السياق هو تطبيق نظام منطقي للضوابط والقيود على استخدام الطاقة النووية·
أما بالنسبة للأسلحة النووية فإن ما يحدث في الواقع هو أنها تواصل انتشارها وتكاثرها· وعلى ما يبدو أن الولايات المتحدة كان محتماً أن تفشل في محاولاتها الرامية إلى إقناع كوريا وإيران بطريقة سلمية بعدم المضي قدما في برامجها النووية الكبيرة· بل إن ما يقال هو أن هناك بلاداً تقوم بتطوير تلك البرامج بشكل سري· وهذه الدول تقول لنفسها إنه طالما أن هناك دولاً أخرى تقوم ببناء برامج نووية فلماذا لا تقوم هي بنفس الشيء، وخصوصا أن امتلاك قدرات أسلحة نووية يؤدي إلى إكساب الدول قدراً كبيراً من الاحترام والمهابة الدولية·
وبالإضافة إلى استخدام الطاقة النووية في تصنيع الأسلحة، فإن هناك عوامل أربعة أخرى تدفع العالم في اتجاه تلك الطاقة كبديل عن الاعتماد المستمر على أنواع الوقود المستخرج من باطن الأرض· السبب الأول والأكثر وضوحاً هو القلق بشأن الارتفاع القياسي في أسعار البترول، الذي يغضب الدول الغنية ويساهم في زيادة فقر الدول الفقيرة· والسبب الثاني: أن الدول تشعر بقلق من احتمال انكشافها استراتيجياً كنتيجة لأن الجزء الأكبر من البترول المستخدم عالمياً يمر عبر الخليج العربي الذي يعد منطقة توتر· ثالثا: أن الكثير من الدول تخشى من أن يؤدي الاستمرار في شرائها للنفط بأسعاره العالية إلى ضخ المزيد من النقود في شرايين الأصولية الإسلامية· أما السبب الرابع فهو: أنه لا يوجد إدراك واسع النطاق بأن الإحماء الحراري يرتبط في المقام الأول بزيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون·
هذا هو السبب الذي يدعو الكثير من الخبراء للتأكيد على أن الطاقة النووية على وشك أن تعود بقوة مجددا على الساحة الدولية· فالصين على سبيل المثال تخطط في الوقت الراهن لبناء 60 منشأة نووية جديدة· علاوة على ذلك نجد أن وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، دعت في نيويورك في سبتمبر الماضي إلى تسريع استخدام الطاقة النووية كبديل عن أنواع الوقود المستخرج من باطن الأرض· ففي مناسبة من المناسبات القليلة التي كان لدى مسؤول أميركي كبير الفرصة لأن يقول شيئا طيبا عن فرنسا، أشارت رايس إلى أن فرنسا تحصل على 80 في المئة من احتياجاتها من الطاقة من الذرة في حين أن الولايات المتحدة لا تحصل سوى على 20 في المئة من احتياجاتها من الطاقة من هذا المصدر·
وعلاوة على ذلك ومنذ أسابيع قليلة حث توني بلير رئيس الوزراء البريطاني مواطنيه على تبني ''موقف منفتح'' حيال الطاقة النووية· ويلاحظ أن بلير يزداد شكا باستمرار في الجدوى السياسية للقيود الموضوعة على انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، كما هي منصوص عليها في اتفاقية كيوتو التي يحين موعد انقضائها عام ·2012 ويرى بلير أن الطاقة النووية توفر له طريقا ثالثا بين وضع قيود قصوى على الانبعاثات الغازية وبين عدم وضع أية قيود على الإطلاق عليها·
تبقى بعد ذلك حلقة يتعين كسرها وهي تلك التي تربط بين الطاقة النووية وبين الأسلحة النووية· فحتى الآن تعتبر الطاقة النووية هي الجني الذي يمكن استخدامه إما للخلق أو للتدمير· ومثلما أن القصص الخرافية العربية مليئة بالمفارقات التي يمكن أن تحدث إذا ما قام الجني بتلبية رغباتنا - كأن يحصل الشخص المتمني مثلا على الحياة الطويلة بدلا من الشب