يخطئ البعض في سوريا، حين يلجأ إلى التظاهرات الشعبية الواسعة، في مدينتي دمشق وحلب، دعماً لمواقفه وتشهيراً بتقرير القاضي الألماني ديتليف ميليس· وسبب الخطأ بسيط، وهو أن التظاهرة إما سلاح في يد الديمقراطية للمطالبة بحقوق ما، وإما سلاح للمطالبة بالديمقراطية نفسها· أما حين يستخدم النظام ديكتاتورياً كان أم لا، سلاحاً كهذا، فما يفعله يرتدّ عليه إذ يقدّم دليلاً جديداً على تحكّمه بحياة البشر ومصادرة إراداتهم· وهذا، بالطبع، ليس الخطأ الوحيد·
فقد أصدر مؤخراً الباحث الألماني المختص بالشأن السوري فولكر بيرتس كرّاساً بالغ الأهمية (عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن) بعنوان: ''سوريا في ظل بشار الأسد: الاعتدال وحدود التغيير''· ولا تكمن أهمية الكرّاس هذا في أن واضعه واحد من أبرز دارسي سوريا الغربيين، سبق له أن أصدر كتاباً مهماً عن ''الاقتصاد السياسي السوري في ظل الأسد''، بل أيضاً لتزامُنه مع الأحداث الجارية التي أطلقها ويطلقها تقرير ميليس، والانعكاسات الضخمة التي سيتركها التقرير على وضع سوريا ومستقبلها، لا سيما بعد ''الانتحار'' الذي أقدم عليه وزير داخليتها غازي كنعان·
وقد يفيد، في مناخ كهذا، استرجاع النتائج التي يخلص إليها بيرتس في ما خص عهد الرئيس بشّار الأسد وآفاقه واحتمالاته، لتبيّن بعض عناصر المنطق المؤدي إلى جملة الأخطاء المتراكمة·
فهو يرى في ''الخلاصة'' التي أعطاها عنوان ''المطالب الداخلية والمخاطر الإقليمية''، أن حرب العراق أحيت السياسة الداخلية في سوريا، بقدر ما عملت على تغيير البيئة الجيو- بوليتيكية المحيطة· ذاك أن نتيجة الحرب حملت السوريين على التفكير في مستقبل بلدهم ونظامه السياسي· فبعد وقت قصير على سقوط بغداد في أيدي الجنود الأميركيين، نشر قرابة 120 شخصية معارضة، من يساريين وإسلاميين معتدلين، من داخل البلاد وخارجها، بياناً جامعاً يدين التهديدات الأميركية لسوريا، بيد أنهم أعلنوا أيضاً أن ''العدوان على العراق برهن أن أجهزة الأمن ودولة الحزب الواحد ليست قادرة على الدفاع عن أرض الوطن''، وأن من المستحيل ''مواجهة العدوان والتهديدات الأميركية-الإسرائيلية'' من دون ''اتفاق وطني وجبهة داخلية تستند على حريات المواطنين''· فهذه الحريات العامة هي ما ينبغي توفيرها وتشكيل حكومة وحدة وطنية تكون القاعدة لبناء ''جمهورية ديمقراطية حديثة''· وفي يونيو الماضي، أُطلقت جبهة أعرض تدعو إلى ''حرية الرأي والتعبير والاجتماع والتنقّل والسفر والنشاط النقابي والسياسي''، كما دعت الرئيس الأسد إلى منع الأجهزة الأمنية من التدخل في الحياة السياسية·
والحال أن القيادة السياسية السورية، التي لم تعمل بهذه النصيحة، سيكون عليها، في رأي الباحث الألماني، أن تواجه انقلاباً في المزاج العام· فالرأي العام كان قد أيّد على نطاق واسع سلوك الأسد قبل حرب العراق وأثناءها· حتى المعارضون كانوا قد خنقوا دعواتهم للإصلاح السياسي أو الديمقراطية كي لا يُنظر إليهم على أنهم جزء من الأجندة الأميركية· لكن بعد سقوط النظام البعثي في بغداد، وعلى رغم الفوارق بين فرعي حزب البعث ونظاميه، بات الأفراد، بمن فيهم المنخرطون في النظام السوري، يقرّون بأن على سوريا أيضاً أن تهيئ نفسها للتغيير·
وظهرت، هناك، إجابات مختلفة عن سؤال: أي نوع من التغيير الداخلي تحتاجه سوريا؟ فالتكنوقراطيون ذوو النزعة الإصلاحية في الحكومة يتوقعون التنفيذ الأسرع للإصلاح الإداري والاقتصادي· وقد تحدث بعض من هم أصغر سناً وقادة في المراتب الوسطى لحزب البعث عن تغيير أجزاء في القيادة الحزبية، وتوقعوا قانوناً حزبياً يتيح مزيداً من التعددية ومن الانتخابات التشريعية التنافسية· كذلك صار النقد المباشر للرئيس أعلى صوتاً، ولئن كان أصدقاء والده الراحل لا يرعون هذا النقد إلا جزئياً، بيد أنه غالباً ما تظهر المقارنات مع والده لغير صالحه، خصوصاً لجهة ما يبدو في حسبة الحرب العراقية قياساً ببراعة حافظ الأسد في التعامل مع أزمة الخليج في 1990-·1991
ويخلص فولكر بيرتس، بعد أن يستعرض بإيجاز، عناصر استقرار النظام وحدود استقرار كهذا، إلى أن التعاطي مع البيئة السورية غدا أصعب من ذي قبل منذ أصبحت الولايات المتحدة الأميركية إحدى جاراتها (حسب عبارة استخدمها وزير خارجية سوريا فاروق الشرع)· إضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل كانت تبحث عن تغيير في قوانين اللعبة الإقليمية، وهو ما بيّنته بوضوح الضربة الجوية لمخيم التدريب الفلسطيني المهجور المُقام على الأراضي السورية، مطالع أكتوبر ·2003 فالضربة هذه، وهي الأولى من نوعها منذ حرب ،1973 إنما صُممت لإشعار دمشق بأنها قد لا تستطيع تجنّب ضربة عسكرية مباشرة إذا ما استمرت في دعم الميليشيات الفلسطينية· والأكثر إقلاقاً من الضربة، بالنسبة إلى سوريا، حقيقة أن ضربة كتلك تحظى بموافقة واشنطن· ذاك أنه بعد وقت قصير عليها، صدّق الكونغرس الأميركي على قانون محاسبة سوريا·
وكان القادة السوريون مهتمين بهذه الانعطافة التي اتخذتها