على امتداد النظر تظهر المحاصيل الزراعية، وتحديداً الحبوب في سنابلها اليانعة وهي تغطي حقول بلدة فيدوتسي في جمهورية روسيا البيضاء بلحاف أخضر يبعث على التفاؤل· وعندما سئل السيد فلاديمير بريزينوف، وهو أحد مديري المزارع التعاونية المنتشرة في هذه المنطقة عن المحاصيل الصيفية مثل القمح والشعير رد بثقة أنه لم يظهر أي تلوث إشعاعي بعد إخضاعها للاختبارات· وبكل المقاييس يعتبر ذلك تقدما هائلا، خصوصا وأن مزرعة بريزينوف التي تبلغ مساحتها أربعة آلاف هكتار تقبع فوق واحدة من أكثر المناطق تلوثاً على وجه الأرض نتيجة الحادث النووي الفظيع الذي هز المنطقة عندما انفجر مفاعل تشرنوبل في 26 أبريل ·1986 وبالرغم من انقضاء كل هذه السنوات على وقوع الحادث مازال ربع أراضي روسيا البيضاء يعاني من التلوث الإشعاعي بدرجات مختلفة· وتأتي الجهود التي يبذلها بريزينوف في استئناف زراعة المحاصيل في أرضه في إطار المساعي الحكومية لإعادة الاستفادة من الأراضي الملوثة·
لم تعد المزرعة التعاونية معروفة باسم كارل ماكس كما كانت في السابق، لكنها مازالت تابعة لملكية الدولة التي أعادت فتحها منذ عامين حيث أنفقت عليها ملايين الدولارات لاقتناء المعدات الزراعية اللازمة لزراعتها· وتمهيداً لإعادة الحياة مجددا إلى هذه المنطقة التي لا تبعد سوى بحوالى 150 ميلا عن تشرنوبل قامت الحكومة بإزالة جميع الحواجز ونقاط التفتيش التي أقيمت في السابق على طول حدود المدينة، وهو ما شجع بعض العائلات على الرجوع إلى منازلهم القديمة في المزرعة واستئناف حياتهم من حيث توقفت· وفي هذا الإطار قام مدير المزرعة السيد بريزينوف بتربية الخيول وقطعان الأبقار، لكنه لا يستطيع إنتاج الحليب لأنه مازال يشكل خطرا على الاستهلاك الآدمي· ومع ذلك يبدو بريزينوف متفائلا بالتحولات التي تطرأ على المزرعة والمنطقة المحيطة بها حيث يقول ''لم يكن هناك أحد قبل أشهر لأنه لم يكن لديهم ما يفعلونه، خصوصا عندما أصبحت الزراعة خطرة وغير مرخص بها من قبل الحكومة''· ويتقاسم معه نفس الرؤية السيد لوكاشينكو الذي كان هو الآخر مشرفاً على إحدى المزارع التعاونية في السابق حيث عبر عن أمله في عودة الحياة مجددا إلى المنطقة الملوثة طارحاً رؤيته القائمة على رجوع العائلات وتوسع القرى بعد إقامة الصناعات وتجديد المزارع القديمة· وفي هذا الصدد يقول ''على الأرض أن تخدم الوطن وتساهم في ازدهاره''·
وبالرغم من المخاوف التي أثارتها مطالب أشخاص مثل بريزينوف ورفيقه لوكاشينكو لدى سكان المنطقة حيال أخطار التلوث الإشعاعي وتأثيره على صحة الإنسان، إلا أن دراسة علمية قامت بها سبع وكالات تابعة للأمم المتحدة والبنك الدولي أشارت إلى إمكانية زرع الأرض دون التعرض لأخطار الإشعاع إذا ما أشرفت حكومة روسيا البيضاء بنفسها على العملية وأخضعتها لضوابط صارمة· وقد خلصت هذه الدراسة إلى أن الآثار السلبية المترتبة عن انفجار مفاعل تشرنوبل وتطاير الغبار الإشعاعي فوق المنطقة لم تكن بنفس حجم الخطورة الذي كان متوقعاً·
لذا أوصت تلك الوكالات التي أجرت الدراسة حكومات روسيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء بإزالة آثار التجربة المريرة التي مازالت عالقة في أذهان الناس والمضي قدماً في تشجيع الاستثمار وتنمية المنطقة· بالإضافة إلى ذلك أوصت الدراسة برفع الحظر عن الزراعة في الأراضي القريبة من الحادث واستئناف زراعة المحاصيل مشيرة إلى أنه يمكن تخفيف الضرر المحتمل عن طريق استعمال تقنيات تقلل من نفاذ الجزئيات المشعة إلى المنتوجات الزراعية·
بيد أن النتائج والتوصيات التي خرجت بها الدراسة لم تمر دون إثارة جدل واسع لدى بعض الأوساط، حيث عارضتها بشدة منظمة ''جرينبيس'' واعتبرتها بمثابة إخفاء للحقيقة عن أنظار الناس· ولم تقتصر الانتقادات على المنظمات الدولية، بل امتدت إلى بعض المسؤولين في حكومة روسيا البيضاء حيث قال فاليري جوراشيفسكي، مدير اللجنة العلمية المكلفة بقضية تشرنوبل إنها ''بالغت في التفاؤل''· لكن بالنسبة لسكان المناطق الملوثة الذين عاشوا على الهامش طيلة الفترة السابقة اعتبروا نتائج الدراسة تشجعهم على استئناف أنشطتهم الزراعية· وبهذا الخصوص يحكي جينادي كروزاييف كيف أنه كان يعمل في إحدى المزارع التعاونية عندما وقع انفجار تشرنوبل فاضطر إلى هجر الأرض والانتقال من عمل إلى آخر دون طائل، لكنه عندما علم بأن الحكومة تشجع على زراعة الأرض من جديد قفز فوق جراره وأظهر رغبته في تجهيز الأرض استعداداً لبذرها في الربيع المقبل، وكما قال هو نفسه فإن أهم شيء هو ''تأمين فرص العمل لهؤلاء الذين سيعودون''·
وبصرف النظر عن النتائج العلمية التي تؤكد أو تنفي وجود نسبة عالية من الإشعاع النووي في المناطق القريبة من تشرنوبل، فإن السلطات في روسيا البيضاء قامت بإعادة إسكان أكثر من 13 ألف شخص في القرى التي بدأت تختفي فيها آثار الإشعاع النووي· ويعيش اليوم حوالى 1,3 مليون نسمة حول المناطق المتضررة وهو ما يشكل نسبة 14% من مجموع السكان الذين كانوا في