خلال فترة ولاية بوش الأولى اتخذت أهم القرارات الخاصة بالأمن القومي للولايات المتحدة، بما في ذلك القرارات المتعلقة بما بعد الحرب في العراق، من قبل عصبة سرية وغير معروفة من الناس في البيت الأبيض· وهي عصبة تضم مجموعة صغيرة من الأشخاص يتزعمها كل من نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد· وعندما قمت الأسبوع الماضي بمناقشة تلك العصبة في خطاب ألقيته في المؤسسة الأميركية الجديدة بواشنطن أثارت تعليقاتي جدلا واسعاً لدى رموزها لا لشيء سوى لأني كنت أشغل حينها منصب مساعد وزير الخارجية السابق كولن باول في الفترة بين 2002 و·2005
ورغم الانتقادات التي تعرضت لها، إلا أنني متيقن تماماً بأن القرارات التي اتخذتها عصبة البيت الأبيض كانت تحظى في كثير من الأحيان بدعم كامل من قبل الرئيس، وبمساندة تامة من مستشارة الأمن القومي في ذلك الوقت التي لم تقوَ على مجابهة رموز العصبة المحيطين بالرئيس واضطرت في أحيان كثيرة إلى مجاراة سياساتهم· كما اتسمت أعمال تلك العصبة بكثير من الانغلاق والسرية، فضلا عن سرعة الإنجاز وفاعليته، وهي في ذلك لا تختلف كثيراً عن الأساليب التي تميز الديكتاتوريات، بل هي في مناورتها أقرب إلى الأنظمة الشمولية منها إلى الدول الديمقراطية· وقد بُررت أساليبهم الخفية وغير المعلنة ببطء وعدم فاعلية الطرق الرسمية في اتخاذ القرارات، حيث عادة ما يتطلب البت في الأمور المرور بمسار طويل من الإجراءات البيروقراطية·
بيد أن الطريقة السرية وغير الرسمية في اتخاذ القرارات أثبتت فشلها وأدت إلى جملة من الأمور الكارثية· وقد لامست عن قرب تلك العملية المزدوجة في اتخاذ القرارات طيلة الأربع سنوات التي عملت فيها ككبير موظفي وزارة الخارجية· ففي تلك الفترة أتيحت لي الفرصة، نظراً لموقع مكتبي القريب من مكتب وزير الخارجية كولن باول، للاطلاع على جميع الوثائق وقراءة النشرات الموجزة لوكالة الاستخبارات، كما كنت في اتصال دائم ويومي مع أشخاص في كافة الدوائر الحكومية· وأدركت حينها أن ما كنت ألاحظه في ردهات البيت الأبيض يختلف عما كان يقصده الكونجرس الأميركي عندما مرر قانوناً يقضي بتشكيل المجلس القومي للأمن سنة ·1947 ووفقا لما أعرفه كان السبب وراء إحداث المجلس الذي يضم رئيس الولايات المتحدة، بالإضافة إلى نائبه ووزير الدفاع هو مراقبة القرارات الخاصة بالأمن القومي وضمان مطابقتها للمصالح العليا للولايات المتحدة· ولطالما وسع المجلس اعتمادا على الرئيس الموجود في البيت الأبيض، حيث ضم في أوقات معينة مدير وكالة الاستخبارات المركزية CIA، ورئيس هيئة أركان القوات المسلحة، فضلا عن وزير المالية وغيرهم إلى درجة أن وصل أعضاؤه في بعض الأحيان إلى مئة شخص·
ورغم الدور المهم الذي يلعبه المجلس القومي للأمن في صوغ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إلا أنه قليلا ما تم اللجوء إليه طيلة الفترة الممتدة بين 2001 و·2005 ومع ذلك فإنه في وسع العديد من الخبراء والعارفين بخبايا عملية اتخاذ القرار في الإدارات الأميركية أن يطرحوا السؤال: وما العيب في ذلك؟ ألم يفشل كافة الرؤساء الأميركيين خلال مرحلة من المراحل في الالتزام بالطريقة الرسمية في اتخاذ القرار؟ أليس من حق الرئيس أن يختار من يشاء لإشراكه في تلك العملية؟ إذن، لماذا نهتم كثيرا بأمر تخويل الرئيس بوش سلطات واسعة في اتخاذ القرارات الحاسمة لنائبه ووزير الدفاع؟ لكنني كأكاديمي سابق، وكأحد الأشخاص الذين تواجدوا في بؤرة اتخاذ القرار أعتقد أن هناك سببين يحتمان علينا الاهتمام بتلك العملية· أولا لأن الابتعاد عن الأساليب الرسمية والمعهودة في عملية اتخاذ القرارات قادتنا في الماضي إلى سلسلة من الكوارث تجسدت بوضوح خلال السنوات الأخيرة من حرب فيتنام، والإحراج الكبير الذي تسببت فيه فضيحة ''واترجيت'' وما أسفرت عنه من استقالة أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، فضلا عن فضيحة إيران- كونترا، ثم مؤخرا السياسة الخارجية الكارثية للرئيس بوش·
أما السبب الثاني فيرجع إلى طبيعة المشاكل التي تميز عصرنا الحالي والسبل الجديدة لمعالجتها· فقد تنوعت الأزمات وتشعبت بدءا بقضايا البيئة وتأمين مصادر الطاقة، ومرورا بمشكلة الاتجار بالبشر، ثم وصولا بالتحديات المعقدة التي تواجه الولايات المتحدة، وهو ما يستدعي الرجوع إلى قواعد اتخاذ القرار المنصوص عليها في قانون ،1947 لتفادي الوقوع في المزيد من الأخطاء الكبيرة· ولئن كان القفز عن المؤسسات الفيدرالية وتجاهل الأصوات المعارضة يؤدي إلى التسريع في اتخاذ القرارات، إلا أن الوكالات الحكومية التي تفاجأ بوضعها أمام الأمر الواقع ومطالبتها بتنفيذ قرارات لم تعرف بها إلا في اللحظة الأخيرة تنزعج من تهميشها ما يقود في النهاية إلى ضعف في التنسيق والفاعلية بين الأجهزة المختلفة، لا سيما إذا كانت الجهات الحكومية المسؤولة عن متابعة توصيات الإدارة في البيت الأبيض تنقصها الموارد المالية، والكفاءات·
وأعتقد أن أداء الإدارة كان سيكون أكثر سوءاً خلال الأ