لقد كان الاقتراع الأخير الذي جرى في اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، المنعقد بتاريخ 24 سبتمبر الماضي، مفاجئاً للكثيرين، على الرغم من أن تصاعد النبرة الإيرانية المتشددة لم يكن سبباً وراء النتائج التي تمخض عنها ذلك الاجتماع· ومما زاد من تأثير تلك المفاجأة، أن صدور القرار نفسه لم يكن متوقعاً حتى اليوم الأخير لصدوره، خلافاً للعرف الجاري في الوكالة، حيث تصدر القرارات بالإجماع عادة· وكان امتناع كل من الصين وروسيا مفاجئاً لطهران أيضاً، على الرغم من أن العارفين ببواطن الأمور، لا يخفون اعتقادهم بأنه لا يمكن لطهران التعويل على دعم هاتين الدولتين لمواقفها· ولكن ربما كانت الضربة الأقوى التي تلقتها إيران جراء صدور هذا القرار، الذي يهدد بإحالة ملفها النووي إلى مجلس الأمن الدولي -نتيجة لعدم امتثالها لنصوص المعاهدة الدولية الخاصة بحظر انتشار الأسلحة النووية- هي تصويت الهند لصالح القرار·
ومما زاد الأمر سوءاً بالنسبة لطهران، أن الرئيس الإيراني كان قد تحدث إلى رئيس الوزراء الهندي، قبل يوم واحد فحسب من اتخاذ القرار، وطلب منه أن تبدي الهند مرونة في موقفها داخل اجتماع الوكالة الدولية للطاقة الذرية· ولذلك فقد كانت ردة الفعل الإيرانية المباشرة إزاء الموقف الهندي، هي التهديد بمعاقبتها تجارياً واقتصادياً، الأمر الذي أضعف صورة طهران، في نظر غالبية المسؤولين الهنود· أما على الصعيد الداخلي، فقد ألهب قرار الوكالة الذي اتخذ في مقرها بالعاصمة النمساوية فيينا، الأجواء المحلية السياسية، مما أرغم حكومة التحالف الهندية، على تبرير موقفها وتصويتها لصالح القرار·
والآن فإن كل الأنظار تتجه إلى اجتماع الوكالة الدولية، الذي سيعقد في الرابع والعشرين من نوفمبر المقبل، حيث تسري شائعات وتكهنات قوية بأن الولايات المتحدة ستدفع باتجاه إحالة ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن· بيد أن هذا الاحتمال يبدو ضعيفاً للغاية، لأنه سيعود بنتائج عكسية على السياسات الأميركية البعيدة المدى، علماً بأنها السياسات الرامية لعزل إيران وتكبيد نظامها الحاكم المزيد من الخسائر والمشاق· ولهذا السبب، فإن لبعض التطورات السابقة لقرار سبتمبر المذكور آنفاً، أهميتها الكبيرة· فإلى جانب قوائم حصر مجالات التعاون وعدم التعاون الإيراني مع الوكالة، كان رئيسها الدكتور محمد البرادعي قد طالب طهران في تقريره المرفوع للوكالة بتاريخ الثاني من سبتمبر الماضي، بأن تمتد إجراءات شفافيتها إلى ما وراء المتطلبات الرسمية التي تنص عليها معاهدة ''السلامة النووية'' وبروتوكولاتها· والشاهد أن هذه المطالبة الإضافية، لم تأتِ نتيجة للضغوط الأميركية والأوروبية على طهران وحدها، وإنما هي نابعة في الأساس من مشاعر الخيبة والإحباط التي اعترت الوكالة نفسها، إثر تأكيد طهران لأنشطتها الخاصة بتخصيب اليورانيوم في شهر أغسطس الماضي·
وكما يتضح إذن، فإن القضايا المطروحة ليست ذات طابع قانوني فحسب، وإنما هي سياسية في واقع الأمر· وفيما يبدو فقد وقعت طهران في أحد الخطأين: إما أنها أخطأت حساب العملية السياسية المحيطة بالمعضلة النووية هذه، أو أن يكون قادتها المتشددون قد عولوا خطأً، على فرضية إذعان المجتمع الدولي في نهاية المطاف، لما يرى فيه هؤلاء القادة حقاً قانونياً لازماً لإيران، وفقاً لنصوص معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية· والواضح أن المتشددين -سواء كانوا مع النظام الحاكم أم من معارضيه- قد دفعوا النظام باتجاه حافة المواجهة هذه، بناءً على تقديراتهم وحساباتهم الخاصة·
بيد أن القشة التي قصمت ظهر البعير -كما يقال في المثل الشعبي- هي الحديث الذي ألقى به الرئيس الإيراني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأويلات الغرب وتفسيره لذلك الخطاب· فعلى الرغم من مطابقته ما بين الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، ووصفه لكليهما بأنهما المهدد الأمني الأكبر الذي يواجهه المجتمع الدولي الآن، إلا أنه مضى شوطاً أبعد، حين ألقى باللائمة في كليهما تلميحاً وليس تصريحاً على الولايات المتحدة الأميركية· وبالنتيجة فقد طغى الضجيج الذي أحاط بالموقف الإيراني، على أي حل توفيقي سياسي، من شأنه أن يحفظ لطهران حقوقها القانونية التي تنص عليها معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية من ناحية، ويخدم الأهداف والدوافع السياسية الغربية، الرامية إلى حرمانها من حق إعادة تدوير النفايات النووية من الناحية الأخرى· وما غفلت عنه الصحافة الغربية أيضاً -نتيجة لتسليط كل أضوائها واهتمامها على خلفية ومكانة الرئيس الإيراني الجديد أحمدي نجاد في الحرس الثوري- هو قراراته وأفعاله الحقيقية، التي كاد بموجبها يحدث تغييراً جوهرياً في قيادة الحرس الثوري، وتجريده لهذه الهيئة من الكثير من الامتيازات والوضعية الخاصة التي اكتسبتها عبر السنين·
ومما لاشك فيه أن كلاً من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الثلاث المفاوضة لطهران، قد رأت في خطاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، أمام الأمم المتحدة تحدياً سافراً· غير أن الخطاب ن