يعتقد البعض، وعن حق، بأن تقرير ميليس عن اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق، رفيق الحريري، والذي صدر يوم الجمعة الماضي، زلزال آخر يهز المنطقة العربية· وهو كذلك· لكن المؤشرات، ومنها ما ينبئ التقرير به من تداعيات، تقول بأن المستقبل يحتفظ للمنطقة بما هو أكبر وأشد زلزالا· التقرير بحد ذاته آخر وأهم المؤشرات على تصدع الحقبة العربية التي صبغت المنطقة خلال أكثر من نصف قرن· الجريمة عربية في أصلها وفصلها، والمتهم فيها نظام حكم عربي، لكن لجنة التحقيق دولية وغير عربية· حتى الجامعة العربية لم يفكر أحد، ولا حتى سوريا بدعوتها للمشاركة في التحقيق· هذا مرتبط بالأنظمة العربية، أهم وأبرز معالم تلك الحقبة العربية· طبيعة الأنظمة تعكس طبيعة المرحلة· وتهاوي الأنظمة يؤذن بنهاية المرحلة· ومن هذه الزاوية تحديداً يجب أن تنظر القيادة السورية إلى التقرير، وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات، واستحقاقات تخص سوريا أولا، ولكن ليس آخراً·
متى بدأت رحلة التحولات؟ ربما بدأت مع الغزو العراقي للكويت· وربما بدأت قبل ذلك بكثير، أو هزيمة حزيران 1967 التي مهدت لسقوط نظام عبدالناصر في مصر· لم يمض وقت طويل حتى اختفى النظام الناصري، نتيجة تفاعل عوامل الداخل مع الخارج، مع غلبة قوى الداخل· من هذه الزاوية، يبدو نظام السادات وامتداده مع الرئيس حسني مبارك، محطة انتقالية لشيء مختلف تماما· النظام العراقي سقط (2003) على يد القوات الأميركية ليحل محله نظام يفتقد إلى الشرعية والسيادة معاً· نظام العقيد في ليبيا انسلخ من جلده تماماً واقتنع بأن بقاءه يحتاج إلى مباركة أميركية (2003)· أول رئيس عربي (صدام حسين) يحاكم (2005) علناً وعلى الهواء مباشرة، في سابقة لم تحدث من قبل في التاريخ العربي قديمه أو حديثه· الرئيس عرفات مات (2004) وهو رهن الاعتقال الإسرائيلي، بل يقال إنه مات مسموما على يد المخابرات الإسرائيلية· هل لاحظت تسارع الأحداث، خطورتها ودلالتها، ما بين 2003 و 2005؟ هذا غيض من فيض ما هو على سطح المشهد العربي فقط· ما تحت السطح قد يكون أكثر إيلاماً· المهم أن تتابع صور المشهد من على سطحه يقود مباشرة إلى تقرير ميليس، وإلى سوريا، الموضوع المباشر للتقرير· وهنا يفرض منطق الأحداث والمعلومات والتحقيق، الاعتراف بمهنية التقرير، وقبول ما جاء فيه على اعتبار أنه مجرد تقرير أولي، وما جاء فيه لا يتجاوز توجيه اتهام، وهو اتهام يحتاج إلى إثبات· لكن حتى بهذا المعنى يعكس التقرير عمق المأزق الذي انتهت إليه السياسة السورية في المنطقة· كيف انتهت العلاقة مع لبنان إلى هذه الحالة البائسة؟ وكيف انساقت سوريا إلى هذا المأزق؟ ومن المسؤول؟ تقرير ميليس يؤشر إلى مأزق مضاعف: سقوط الاستراتيجية السورية في منطقة الشام، ومواجهة النظام الدولي وهو يخضع للهيمنة الأميركية· الأسوأ أن سوريا تجد نفسها في هذا الموقف من دون حليف حقيقي، لا عربي ولا غير عربي· هذا مؤشر آخر على تصدع الحقبة العربية·
كانت قناعة حافظ الأسد أن علاقة سوريا مع لبنان، خاصة بعد كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية، هي حاجة استراتيجية· الصراع العربي الإسرائيلي تحول نتيجة لهذه الاتفاقية ليصبح في أساسه صراعاً بين سوريا وإسرائيل على منطقة الشام· ولبنان يمثل العمق الاستراتيجي المباشر لسوريا في هذه المواجهة، إلى جانب تداخل التركيبة الاجتماعية لكل من سوريا ولبنان· من هذا المنطلق كان يفترض أن تتم إدارة العلاقات مع لبنان بما يتفق مع أهميتها وخطورتها، فضلا عن أسسها التاريخية والقومية· لكن الواضح الآن أن هذه العلاقة تدهورت بشكل خطير· اللبنانيون في الشارع وفي الإعلام وداخل الحكومة يتهمون النظام السوري علنا وبشكل يومي بأنه وراء اغتيال الحريري· موضوع ترسيم الحدود وتبادل السفارات بين دمشق وبيروت أضحى ولأول مرة مطلباً مطروحاً· المجلس الأعلى المشترك ينتظر أن يتم حله، والمسار السوري اللبناني فيما يعرف بعملية السلام ينتظر فصله ليكون مسارين منفصلين· بعبارة أخرى، خسرت دمشق الورقة اللبنانية، ومعها سقطت فكرة التوازن الاستراتيجي التي تبنتها سوريا في عهد حافظ الأسد· من المسؤول عن كل ذلك؟ من الصعب تفادي الاستنتاج بأن سوريا هي المسؤول الأول، وإن لم يكن الأخير· هي مسؤولة بحكم أنها الأكبر، والأقوى، وبحكم أنها هي التي كانت تتواجد عسكريا وسياسيا وأمنيا في لبنان، وليس العكس·
ما جاء في تقرير ميليس عن الهيمنة السورية على لبنان هو شيء كان معروفا ومتداولا بين اللبنانيين وغير اللبنانيين قبل التقرير وقبل اغتيال الحريري بوقت طويل· وهذا يضع المسؤولية على سوريا قبل غيرها· وها هو أحد أصدقاء سوريا، رئيس تحرير إحدى الصحف البيروتية (الصوت القومي في لبنان) وأحد المؤمنين بحتمية العلاقة بين لبنان وسوريا، لا يجد مناصاً بعد كل ما حدث من مواجهة دمشق بمسؤوليتها عما آلت إليه العلاقة بين البلدين الشقيقين· اندهش طلال سلمان من غياب رأي سوري حول اغتيال الحريري إلا بعد صدور تقرير ميليس· كأن دمشق معنية بمخاطبة الرأي