اعتبر البعض أن تقرير ميليس عن نتائج التحقيق الذي أجراه في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بمثابة الزلزال، وربما تكون هذه الصفة نابعة ليس من إتيان التقرير بأفكار خارجة عن المألوف أو المتوقع في هذه الجريمة وإنما من دعم الأفكار التي راجت بعد وقوع الجريمة عن ضلوع جهات محددة فيها بقدر يعتد به من المعلومات· يقول التقرير بوضوح في البند السادس من ملخصه التنفيذي ''بناء على ما توصلت إليه اللجنة والتحقيق اللبناني حتى الآن وعلى أساس الأدلة المادية والوثائق المجموعة والقرائن التي أمكن الحصول عليها حتى الآن، ثمة أدلة تتفق على أن ثمة تورطاً لبنانياً وسورياً في هذا العمل الإرهابي''، ويؤكد التقرير هذا الاستنتاج في متنه (بند 123) بالقول: ''هناك سبب يدعو إلى الاعتقاد بأن قرار اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ما كان ليتخذ بغير موافقة أمنيين سوريين رفيعي المستوى، وما كان لينظم على نطاق أوسع بغير تواطؤ نظرائهم في الأجهزة الأمنية اللبنانية''·
غير أن التقرير أضاف لسوريا تهمة جديدة هي عدم التعاون ''بالمضمون''· يقول التقرير (بند 31): ''عندما حاولت اللجنة الحصول على تعاون الحكومة السورية في متابعة هذه الأدلة فإن اللجنة لقيت تعاوناً بالشكل وليس بالمضمون''· وواصل التقرير هذه التهمة في بند (34) معلقاً على لقاءات عقدتها اللجنة مع ممثلين عن وزارة الخارجية السورية يقول: ''في نهاية اللقاءات كان واضحاً أن المستجوبين أعطوا إجابات متشابهة، والكثير من هذه الإجابات كان يتناقض مع الأدلة التي جمعتها لجنة التحقيق من مصادر منوعة أخرى''، بل امتد اتهام التقرير إلى وزير الخارجية السوري فاروق الشرع نفسه الذي وصف التقرير رسالته إلى اللجنة بأنها ''تتضمن معلومات خاطئة''·
لا شك أن نتائج كهذه تضع في مأزق شديد كلاً من النظام السوري ورئيس الجمهورية اللبناني كونه الرمز الباقي الوحيد للسلطة في لبنان ما قبل اغتيال الحريري طالما أن تركيبة مجلس النواب ومن ثم مجلس الوزراء قد تغيرت، ولن يفيد كثيراً في مواجهة هذا المأزق الدفع ''بتسييس التقرير''، فالواقع أن التقرير بحد ذاته يتمتع بمصداقية مهنية واضحة، فقد اتهم مسؤولين سوريين ولبنانيين على النحو السابق بيانه، لكنه حرص في بنده رقم (21) على أن يؤكد أن اللجنة قد حددت حقائق وكشفت مشتبهاً بهم على أساس الدلائل التي جمعتها أو توافرت لديها، وواصل التقرير في البند نفسه قائلاً: ''لقد فحصت اللجنة ودرست هذا الدليل بأفضل المعرفة التي لديها، وقبل اكتمال التحقيق، وتحليل كل المفاتيح والأدلة بالكامل، وإنشاء ادعاء مستقل وغير متحيز لا يمكن للمرء معرفة القصة الكاملة لما حصل، وكيف حصل، ومن المسؤول عن اغتيال رفيق الحريري و22 شخصاً بريئا آخرين، لذلك فإن افتراض البراءة يبقى قائماً''· بل إن سطور التقرير الأخيرة حرصت على أن تؤكد المعنى ذاته: ''إن اللجنة ترى أن جميع الأشخاص بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بجرائم يجب أن يعتبروا أبرياء إلى حين إثبات جرمهم استناداً إلى محاكمة عادلة''·
كذلك حرص ميليس على أن يشير في بنده رقم (206) وبنود أخرى عديدة إلى أن مواصلة التحقيق ضرورة، على أن يكون ذلك ''على يد السلطات القضائية والأمنية اللبنانية التي أثبتت خلال التحقيق، وبمساعدة ودعم دوليين أنها تستطيع أن تتقدم وأن تعمل مع مرور الوقت بشكل مهني وفعال''·
غير أن ما سبق لا يعني أن التقرير بعيد تماماً عن التسييس، وينبع تسييس التقرير في تقديري من مصدرين أولهما توقيت إعلانه والثاني التوظيف الأميركي له· أما عن التوقيت فليس مفهوماً لي على الأقل لماذا الحرص على إعلان التقرير في هذا الوقت بالذات الذي تحتدم فيه الأزمة بين سوريا والولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم يسهل تصور توظيفه أميركياً على نحو ما سيجيء في النقطة التالية بشيء من التفصيل· سيقولون أكمل الرجل تقريره فلماذا لا يعلنه على الملأ؟ والسؤال المقابل هو لماذا يعلن طالما أنه لا يتضمن نتائج نهائية ويطالب باستمرار التحقيق ولذلك فسوف يثير من البلبلة والاضطراب أكثر مما يجيب على علامات استفهام ضرورية؟ بل إنه من الواضح أن الرجل كان يتصور أن تقريره سيكون سرياً يُقدم إلى مجلس الأمن فحسب لمناقشته، بدليل أنه عندما تأكد من خطأ تقديره ومن أن التقرير سوف يُعلن بكامله اضطر إلى حذف أسماء بعينها من التقرير بالتأكيد لأنه قدر أن الشكوك التي تحيط بهم سوف تفضي إلى تصاعد حدة الاتهامات الموجهة إليهم في وقت لم تثبت فيه هذه الاتهامات بعد بأدلة وبراهين قاطعة· غير أن الأخطر من توقيت التقرير التوظيف الأميركي له سياسياً، ففور إعلان التقرير دعت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية إلى ''محاسبة سوريا'' أي فرض العقوبة قبل صدور الحكم، وواصلت رايس دعوتها قائلة: ''إن المحاسبة ستكون مهمة بالنسبة إلى المجتمع الدولي، ولن نقبل فكرة أن يكون جهاز أمن دولة معينة مشاركاً أو متورطاً في اغتيال رئيس وزراء سابق في دولة أخرى''، وقد كان أحد المسؤولين رفيعي المستوى ف