جاء إعلان تقرير لجنة التحقيق الدولية في مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري قبل أيام، ليُحدث اضطراباً كبيراً في الأوساط العربية الإعلامية والسياسية والاستراتيجية، سواء كانت رسمية أم مدنية شعبية· وراح الناس يتساءلون بغضب وأسى، وبشيء من الشعور بالإحباط: إلى أين نحن ذاهبون؟ وبدا الأمر وكأنه انتهى إلى مآله الأخير، ''وكفى الله المؤمنين القتال''· بل أعلن كتاب ومحللون أن منطقة الشرق الأوسط مرشحة، الآن، لأن تعيش تاريخاً جديداً بخريطة جيوسياسية جديدة· وفي سوريا، تحديداً، برز التساؤل فيما إذا كنا ما نزال قادرين على فعل شيء، إذا ما أتى قرار بحصار سوريا اقتصادياً وبحصار سياسي ودبلوماسي، أو بغيره: لقد أصيب الناس بذهول ظهر وكأنه خارج التاريخ· إذاً أين كان هؤلاء جميعاً، وأين كانوا ممّا أخذ يجتاح العالم الراهن، على الأقل منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، والحادي عشر من سبتمبر؟
وعلى نحو متسارع ومتوازٍ مع ذلك التساؤل المركّب، عادت أسئلة جرى تغييبها على امتداد عقود، لتواجه الناس بكل ثقلها؛ وكان التالي في مقدمتها: ما هو الذي أسّسنا له منذ مرحلة ما بعد الاستقلال، وأين جرى تغييب الشعار الاستراتيجي: لا شيء يعلو فوق صوت المعركة؟ واتضح للكثيرين أن ناتج تلك العقود يتمثل في سلسلة الهزائم أمام ''العدو'' منذ هزيمة الـ67 المنكرة، وفي تقويض الداخل اقتصاداً وسياسة وتعليماً وقضاء··· إلخ· وفي هذا وذاك، ظهرت أصوات بُحّت من كثرة النداء أن انتبهوا إلى الذي إذا تفكك وسقط، فإن كل شيء يكون معرضاً للتفكك والتساقط معه؛ إنه الداخل والثقة في مصداقيته وشرعيته·
لقد أصرت نخبٌ في النظام السوري أن تبقيه مغلقاً أولاً بأول في وجه الشعب، أي في وجه الفئات والشرائح والطبقات الشعبية والعلماء والباحثين والمثقفين، معتقدة أنها هي وحدها المعنية بشؤون البلاد والعباد· وها قد ذهبت مجموعة من تلك النخب إلى غير رجعة، وظل النظام مغلقاً أمام أعظم استحقاق يواجه البلد؛ إنه إصلاح وطني ديمقراطي حقاً· فأن يكون هذا الإصلاح حقيقياً، إنما يعني ''ألا يُنظر إلى الهرم من خِرم أبرة'' لا يُري أكثر من زاوية هنا وأخرى هناك· لقد دقت أجراس الخطر الماحق، وظل المعنيون بسماع هذه الأجراس مُصرّين على تجاهلها· وفي هذا، يتضح أن هؤلاء يعرّضون البلد لمقامرات قد تقوّضه· وهذا ما يمثل الناتج السياسي والاجتماعي والاقتصادي لترك البلد مزرعة في أيدي المستأثرِين بالسلطة والثروة والإعلام: لقد غدا الداخل السوري مُستباحاً لصالح هؤلاء، ومكشوفاً أمام العالم، ومغيباً من دائرة الحوار السياسي الحضاري؛ وهكذا الحال لمِن ''يترك ماله داشراً فيثير لعاب أهل الحرام''، من نمط الإدارة الأميركية·
وفي ضوء التفكير الاستراتيجي، ربما كان الافتراض وارداً بأن ''تقرير ميليس'' يدخل في خانة الحادي عشر من سبتمبر، أو لعله يكون مماثلاً له في أهميته أو خطورته الاستراتيجية· فهو يُراد له أن يكون دفعاً للأوضاع الحالية الملتهبة إلى الأمام، ومُنتجاً لأخرى تكون بمثابة القول الفصل في خريطة جيواستراتيجية جديدة للمنطقة، يكون العالم العربي في محورها المركزي: أما ركيزة هذه الخريطة فتتلخص في التأسيس لمعاهدة جديدة على نمط سايكس- بيكو، إنما على نحوٍ يتواءم مع واقع الحال الجديد المتبلور يداً بيد مع الملامح الكبرى للنظام العالمي الجديد· وعلى هذا الصعيد، ينبغي القول -بتشديد ليس ضئيلاً- بأن النظام السياسي السوري (بمثابته أحد تجليات النظام السياسي العربي الكبير) هو المسؤول الأول -بسبب من كونه صاحب القرار السياسي- في حدوث الموقف الإشكالي والخطير والمشحون باحتمالات مفتوحة جمّة، والذي هو بمثابة حصار لسوريا دولياً·
وإذا كان الشعب السوري يعدُّ أكثر من سبعة عشر مليوناً من البشر القادرين -بمحضهم- على التفكير المفعم بالمسؤولية الوطنية والتاريخية، فلمِ ترجأ ملفات الإصلاح الوطني الديمقراطي؟ أليست المرحلة الراهنة هي ما يمكن أن يكون الأكثر خطراً على سوريا؛ وكذلك الأكثر احتمالاً لإنتاج مشروع وطني ديمقراطي يتصدى لاستحقاقات كبرى قد تُخرَج من الأجندة السورية غداً، إن لم يتم تناولها اليوم· إن إطلاق الحريات الديمقراطية واستصدار قانون للمطبوعات وتجميد قانون الطوارئ مع إطلاق معتقلي الرأي، إن ذلك يمثل أمانة عظمى في أيدي الوطنيين السوريين في قمة الهرم كما في قاعه·