هل من الممكن للعربي أن يبقى متفائلاً وهو يرى رئيساً عربياً سابقاً يحاكم لجرائم لها أول وليس لها آخر؟ هل يبقى متفائلاً وهو يرى تقريراً دولياً يدين تصرفات نظام عربي يخطط لاغتيال زعيم سياسي في بلد مجاور؟ هل يمكن للعربي أن يتصرف وكأن ما حوله جزء من مؤامرة حول كيانه وهو يدرك تمام الإدراك أن من يتغطى بنظريات المؤامرة نظم لم تصل للحكم من خلال الإجماع وبقيت على سدته من خلال القمع؟ نرى هذه الأمثلة وغيرها وندرك أن المواطن العربي يبقى صبوراً ومتفائلاً ولكن هل هناك من منطق لمثل هذا التفاؤل؟ تجربة العديد من الأمم والشعوب تردد أن الأزمات كي تنفرج لابد لها من أن تشتد، ومن خلال مثل هذه المقاربة تمثل محاكمة صدام حسين وتقرير ديتلف ميليس اختراقات رئيسية للعباءة الاستبدادية السوداء التي غطت العديد من مناطق العالم العربي ولعقود كثيرة، فمحاكمة صدام تمثل فرصة نادرة لغرس أسس نظام يقوم على حكم القانون ومحاسبة الطغاة الذين حولوا الأوطان إلى مزارع عائلية خاصة في أفضل الأحوال، وفي أسوئها إلى معتقلات تعذيب وسجون معتمة· والاختراق الثاني والذي يمثله تقرير ميليس يبين أن الجريمة السياسية لا يمكن أن تبقى دون محاسبة ولا يمكن لنظام سلطوي أن يتخفى في عباءة القومية والتحرير وهو الذي يمارس لعبة سياسية أبجدياتها الرئيسية تضم عبارات النفوذ والفساد والمخابرات وكلمات رديئة أخرى أصبحت من أساسيات قاموس العمل السياسي العربي·
صورة العديد من رموز نظام البعث العراقي وهم جردوا من بدلاتهم العسكرية ومن المرافقين ومن الصبغ الأسود الذي كان يغطي أعمارهم الحقيقية، كانت صورة محزنة بكل المقاييس، وللوهلة الأولى يغيب عن الذهن أن هذه المجموعة تفننت في القمع الداخلي وتعاملت مع العالم العربي بعنترية مدمرة، وتتكرر الصورة من خلال التفنيد الستاليني للتقرير الدولي حول اغتيال المرحوم رفيق الحريري، تفنيداً من مسؤولين ندرك تمام الإدراك أنهم لا يعرفون أبجديات النظم القضائية ولكنهم يعرفون كل شيء عن الظلمة الحالكة التي تدير عوالم المخابرات ونظريات غوبلز في الإعلام، ومن هذا المنطلق أجد نفسي مع غير المتفائلين، كي لا أقول المتشائمين· فالاختراق العراقي المتمثل في المحاكمة، وتقرير قاضي التحقيق الألماني تبقى اختراقات محدودة، ولا أستطيع أن أتصور أننا أمام نمط جديد في التعامل السياسي في العالم العربي·
الأدبيات السياسية التي تناولت العالم العربي تحدثت في نهاية الخمسينيات عن استيلاء العسكر على السياسة العربية، ونهاية الليبرالية العربية التقليدية أمام تيارات مجالس قيادة الثورة والثورات التي التهمت أبناءها، ولكننا إن تتبعنا الحالتين العراقية والسورية نجد أن مرحلة السيطرة العسكرية قد انتهت لصالح الأسرة الممتدة، وهنا أقصد أسرة الزعيم المباشرة والحلقة العشائرية والطائفية الأوسع، واستبدلت الوحدات العسكرية بحكم المخابرات، ويبدو أن هذه السلعة كانت قابلة للتصدير والدليل ما نعرفه في هذه الأيام باسم النظام الأمني اللبناني-السوري والذي تآمر على حياة رئيس الوزراء اللبناني السابق، وهذه المرحلة وبرغم أنها تتعرض للمحاكمة في بغداد ودمشق إلا أنها على ما يبدو مستمرة في السياسة العربية ولا يجب الاستهانة بها برغم هذين الاختراقين·
التطورات في الأيام القليلة الماضية تاريخية بجميع المقاييس ولابد لنا من البناء عليها بعيداً عن التشويش الذي يحاول البعض أن يفرضه باسترجاع شعارات قومية وثورية ندرك جميعاً أن هذه الأنظمة الساقطة والباقية لا تؤمن بها، ولا أشك أبداً أن أجواء الاستقطاب المحيطة في الملفين المطروحين قوية، ولكننا وفي أسبوع واحد شاهدنا سقوط ورقتين من أوراق التوت القليلة الباقية، وما علينا إلا أن نتابع مسلسل ما زرعه هؤلاء الثورجيون قبل عقود عدة·