يضع تقرير ميليس سوريا في فخ يصعب الفكاك منه· فالخطوة التالية المهمة ستكون مطالبة سوريا ولبنان بتسليم القيادات الأمنية البارزة التي وجه لها التقرير إصبع الاتهام بالتورط في اغتيال الرئيس الحريري· وقد تستغرق صياغة هذا الطلب بعض الوقت نظراً لمعارضة الولايات المتحدة للمحكمة الجنائية الدولية وتمسك فرنسا بهذه المحكمة وأملها في أن تكون لها ولاية عامة على مثل هذه القضية وقضايا مشابهة· ومن المرجح أن ينجح الأميركيون في فرض تشكيل محكمة دولية خاصة من النوع نفسه الذي حاكم ''مجرمي الحرب في البوسنة والهرسك''، وهو ما يرسل إشارة قوية إلى احتمال ملاحقة هذه المحكمة للرئيسين السوري واللبناني نفسيهما بنهاية المطاف· سيكون هذا السيناريو زلزالا يهز بعنف بالغ السياسة العربية كلها ويصنع أزمة فريدة في العلاقات الدولية- العربية·
ولذلك فإن الاختيارات السورية كلها صعبة· ومع ذلك فإن الأخطر من صعوبة الاختيارات المتاحة بذاتها أن تتخبط سوريا بين ردود الأفعال الممكنة وهو ما يضاعف الإساءة لصورتها دون أن ينقذها من الفخ المنصوب لها· ولذلك فالأفضل هو أن تتأمل سوريا خياراتها جيداً وأن تتمسك بأفضل اختيار ممكن حتى النهاية· ولكن المشكلة هي تحديد الاختيار الأفضل·
أمام سوريا نظريا اختياران أساسيان وآخران فرعيان·
الاختيار الأول هو قبول ما قد ينتهي إليه مجلس الأمن من قرارات بما في ذلك تسليم القيادات الأمنية الكبرى التي قد يطلب المحقق الدولي تسليمها من أجل محاكمتها أمام محكمة دولية· ويتفق هذا الاختيار مع فلسفة النظام السياسي السوري في استمرار الاندماج في النظام الدولي وتجنب المواجهة مع الغرب كله تقريبا حول هذه القضية، وهي مواجهة لا تستطيع سوريا تحمل تبعاتها على المدى الطويل· غير أن اتخاذ سوريا لهذا الاختيار محصور في احتمال براءة الرئيس السوري من دم الحريري، بمعنى أنه لم يكن يعرف· عندئذ يمكن للرئيس السوري أن ينقذ نفسه وسمعة بلاده بالتضحية ببعض قياداته الأمنية العليا·
وقد تحاول سوريا الأخذ بسيناريو ما - أو اختيار فرعي- تسعى من خلاله لتجنب المواجهة وتجنب الأسوأ في نفس الوقت، بتقديم الشخصيات الأمنية المتهمة لمحكمة سورية بالطريقة التي أخذ بها السودان فيما يتعلق بمحاكمات جرائم الحرب في دارفور· فهذا السيناريو أو الاختيار الفرعي يستبعد احتمال أن يقود تسليم قيادات أمنية بارزة لمحكمة دولية إلى شعورها بالمرارة إلى الحد الذي تورط فيه الرئيس السوري بما يؤدي إلى طلب محاكمته بدوره، وهو أسوأ النتائج المحتملة قاطبة· ويتفق هذا السيناريو أيضا مع ما أكده الرئيس السوري بنفسه عندما صرح أمام محطة ''سي إن إن'' التلفزيونية الأميركية بأنه سيوجه اتهاما بالخيانة لأي سوري يثبت تورطه في اغتيال الحريري· ولكن يعيب هذا السيناريو أنه قد لا ينهي المواجهة إلا إذا وقفت عدة دول كبرى أعضاء في مجلس الأمن معه بكل قوة متحدية الإرادة الأوروبية والأميركية لمحاولة إيجاد مخرج لسوريا كدولة· ولا يوجد حتى الآن ما يؤيد هذا الاحتمال من السوابق حيث اضطرت روسيا مثلا للموافقة الضمنية على محاكمة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش الذي وقفت معه أثناء الحرب الأهلية بدرجة ما من المرونة· وقد ترفض الولايات المتحدة هذا السيناريو إن لم تحصل على عائد سياسي كبير للغاية من دمشق مقابل إعفائها من الوقوف أمام محكمة دولية في نهاية النفق·
أما الاختيار الأساسي الثاني فهو المكابرة ورفض سوريا لتقرير ميليس واتهامه بالتحيز السياسي وربما العمالة لأميركا أو إسرائيل، وهو ما مثل رد الفعل الأول من جانب المسؤولين السوريين لإذاعة نص مسودة للتقرير· وفي هذه الحالة، سيكون على سوريا أن تتحمل عواقب قاسية تشمل فرض عقوبات من مجلس الأمن وربما تصعيدا عسكريا أميركيا· ولكن أسوأ نتائج هذا الاختيار هو أنه سيبقى الاتهام معلقا في رقبة النظام السوري بما في ذلك الرئيس نفسه ولا يسقط هذا الاتهام سواء بحل سياسي أو قرار قضائي· ويضاعف من سوء نتائج هذا السيناريو أن العقل السياسي الدولي لا يكاد يصدق أن اغتيال الحريري تم دون موافقة المسؤول السياسي الأول في البلاد، ويضع الرئيس أمام احتمالين كلاهما سيئ بالنسبة له: أي أنه كان يعرف وهو ما يجعله مسؤولا من الناحيتين السياسية والجنائية أو أنه لم يكن يعرف حدثا أو قرارا بمثل هذه الضخامة وهو ما يعني تشجيع الشكوك حول صلاحيته للحكم· ومع ذلك فإن هذا الاختيار يمتاز بأنه يجنب سوريا المهانة الدولية وقد ينقذ رئيسها لو كان متورطا من الوقوف أمام محكمة دولية وهو أهم ما قد تحرص عليه الدولة السورية· ولو أخذت الدولة السورية بهذا الاختيار فإنها ستكون ملزمة بالحفاظ على قياداتها الأمنية المتهمة لأن إقالتها في هذا الوقت قد تعني الاعتراف بارتكابها للجريمة·
وهناك سيناريو ظل أو اختيار فرعي ينبثق من نفس الفلسفة وهو أن تصعد سوريا بأكثر من مجرد المكابرة· فلا تتوقف فقط عند اتهام القاضي ميليس بالتحيز السياسي وإنما أن تتهم الولايات المتحدة وإسرائيل