شهدت بريطانيا خلال عقد الستينيات، سجالاً طويلاً حول دورها في مرحلة ما بعد الإمبريالية في المنطقة الواقعة شرقي قناة السويس· وفي تلك الأثناء كانت بريطانيا هي الدولة الأجنبية الرئيسية، ذات الوجود العسكري الكبير، في منطقتي الخليج العربي وغربي المحيط الهندي· ولكنها قررت سحب قواتها العسكرية من منطقة الخليج في عام ،1971 بينما حلت محلها الولايات المتحدة الأميركية التي أخذت عنها دورها العسكري في المنطقة· لكن وبسبب الالتزامات الكبيرة التي جابهتها أميركا في حربها الطويلة في جنوب شرقي آسيا، فقد عولت واشنطن على كل من المملكة العربية السعودية وإيران، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين تقوم عليهما استراتيجيتها الدفاعية في المنطقة· ثم تواصل نمو الوجود والدور العسكري الأميركيين في الشرق الأوسط، عبر حقبة الثمانينيات كلها، خاصة في أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية عام ،1979 ثم الاجتياح السوفييتي لأفغانستان في عام ،1980 والغزو العراقي للكويت في عام ،1990 وصولاً إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة عام ·2001 واليوم فإن الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، يمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط، وحتى جبال أفغانستان·
لكن ومع استمرار الحرب الدائرة الآن في العراق، وتزايد الرفض الشعبي الأميركي لها، فقد بدأت تثار في الولايات المتحدة، التساؤلات حول مدى الحكمة في الاستمرار الطويل الأمد، للوجود العسكري الأميركي في المنطقة؟ وللمزيد من تحري الدقة، فإن لذلك السؤال علاقة بسؤال آخر هو: إلى أي مدى يخدم الوجود العسكري الأميركي الطويل الأمد، المصالح الاستراتيجية الأميركية؟ وعلى الرغم من أن الجدل العام الأميركي الدائر حالياً، لا يرقى إلى مستوى وحدّة الجدل العام الذي دار حول الوجود البريطاني في منطقة شرقي قناة السويس -على نحو ما أشرنا إليه في صدر هذا المقال- إلا أنه لا شك يثير جملة من التساؤلات حول ما يمكن لأميركا فعله في منطقة الشرق الأوسط الكبير، من خلال وجودها العسكري فيه· أما المخاوف من ''الاستنزاف المالي'' فهي الأكثر رواجاً وشيوعاً في لغة منتقدي الحرب على العراق، بمن فيهم كثيرون من المحافظين التقليديين·
لكن ومع ذلك، وطالما يرجح أن تظل منطقة الخليج العربي مزعزعة الأمن والاستقرار لعدد ليس قليلا من السنوات المقبلة، وطالما بدأت تبرز إلى السطح، دول آسيوية، يقدر أن يكون لها دور كبير في المنطقة، فقد أصبح من الأهمية بمكان، النظر إلى الكيفية التي تعالج بها واشنطن، وجودها السياسي العسكري في منطقة الشرق الأوسط· والحقيقة الأولى الواجب قبولها والامتثال لها، هي تنامي الدور الآسيوي في هذه المنطقة· وبالنسبة إلى جنوبي آسيا، فإنه ما من سبيل لإنكار الحضور الكبير لمواطنيها في منطقة الخليج العربي، سواء في قطر أم الكويت أم دولة الإمارات العربية المتحدة· إلى ذلك فإن لكل من الهند وباكستان حاجاتهما المتنامية للنفط والغاز الطبيعي المتوفرين في دول الخليج، بما فيها إيران· وعلى الرغم من أن أهمية دور بلدان جنوبي آسيا في هذه المنطقة، ظل خافياً لعدد من السنين الماضية، إلا أنه يمكن أن يتحول إلى دور متنازع عليه، في السنوات القليلة المقبلة· ليس ذلك فحسب، بل هناك أيضاً الحديث عن الدور الصيني المتوقع في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بالنظر إلى تنامي الحاجة الصينية لموارد النفط والوقود· والسؤال الملح الآن يتعلق بما إذا كان سينعكس تنافس المصالح الهندية-الصينية في منطقة الشرق الأوسط، على برامجهما وأنشطتهما العسكرية، وكيف سينعكس كل ذلك بدوره على علاقاتهما بالولايات المتحدة الأميركية؟ من كل هذا يتضح أنه لا سبيل لانسحاب أميركي مفاجئ من العراق، في المدى القريب· لكن وفي الوقت ذاته، فقد أصبحت فكرة استمرار الوجود العسكري الأميركي الطويل الأمد في المنطقة، فكرة غير واقعية اليوم، بما لا يقاس إلى أي وقت آخر مضى·