قبل عام، وقبل مقتل الحريري، كان المشهد بالنسبة لكثيرٍ من اللبنانيين والمعارضين السوريين لا غبار عليه: إمّا أن يتغير النظام السوري، أو أن يظلَّ الوضع البائسُ سائداً في لبنان وسوريا· بيد أنّ لبنانيين كثيرين أيضاً، ومنهم مَنْ ليست لديه ميولٌ قوميةٌ أو بعثية كانوا يلفتون الانتباه إلى تردّي الأوضاع في العراق نتيجةَ سقوط نظام الحكم هناك· وكان هؤلاء يقولون بأسى: يبدو أنه لا مخرج في العالم العربي من الاستبداد أو الفوضى! بيد أنّ المسألة تركزت لدى المتشككين في هذه التحليلات الجذرية في دور الاحتلال الأميركي بالأحداث الهائلة الجارية بالعراق· ثم جاءت الانتخابات، وتشكلت ثلاث حكومات، وجرى قبل أيامٍ الاستفتاء على الدستور، وستجري انتخاباتٌ مرةً أخرى بعد شهرين ونيّف· وما عاد لدى المراقب الدقيق شكٌّ في أنّ العراق وقع ضحية الثُنائية العَدَمية: الطغيان أو الفوضى· وما كان ذلك لأنّ طبيعة العرب هكذا، كما يقول الليبراليون الجدد، ولا لأنّ الاحتلال الأميركي أغرى الناس بذلك ودفعهم إليه· بل لافتقار العراق وغير العراق إلى النُخَب السياسية والثقافية العاقلة والمستنيرة والتي تتعالى فوق المصالح والجراح· والشواهدُ على ذلكَ كثيرةٌ بالعراق وغير العراق· ولن أبدأ هنا بالأحزاب الكردية، رغم مسؤوليتها الكبيرة فيما جرى ويجري في العراق طوال السنتين الأخيرتين· بل أبدأُ بالقادة الحزبيين من الإسلاميين (المجلس الأعلى وحزب الدعوة) والمدنيين (علاّوي والجلبي وأمثالهما) واليساريين والقوميين (وفي طليعتهم حزب البعث الحاكم سابقاً، والحزب الشيوعي المُلاحَق سابقاً)· ولا تتساوى المسؤوليات والأعباءُ طبعاً· بيد أنّ الظروف وضعت هؤلاء جميعاً في مقدمة الصورة على اختلاف تأثيرهم ومَدَياته· وممن وضعته الظروف في مقدمة الصورة المرجعية الدينية الشيعية، وهيئة علماء المسلمين التي حاولت أن تلعب دور المرجعية لدى أهل السنة هناك·
سادَ المشهدَ السياسيَّ والأمنيَّ إلى جانب الأميركيين خلال السنتين الماضيتين بالعراق كلٌّ من حزب الدعوة والمجلس الأعلى، والحزبين الكرديين أو البارزاني والطالباني· أما حزبا الدعوة والمجلس الأعلى فقد استقدما آلاف المسلَّحين معهما من إيران، وجنّدا آلافاً أُخرى بالداخل العراقي، ثم استفادا- إلى جانب السيد مقتدى الصدر- من حلّ الجيش والشرطة من جانب الأميركيين، لإدخال عشرات الألوف من أنصارهما إلى القوات الجديدة· وقد سَعَيا سعْياً حثيثاً لإلحاق المرجعية الدينية التي يتزعمها السيستاني بهما تحت ستار وحدة الأكثرية الشيعية· وقد ترددت المرجعية لأشهُرٍ معتصمةً بمسألة الانتخابات الحرة بعد انسحاب الأميركيين· ثم بدا لها أن تغادر موقفَها السابق، وأن تقدّم ''وحدة الشيعة'' على وحدة العراق وحريته، فقالت بالانتخابات في ظلّ الاحتلال، واعتبرت اللائحة الانتخابية الشيعية الواحدة ''تكليفاً شرعياً''! وقد اضطر السيد مقتدى الصدر الذي وجد نفسهُ مُحاصراً بين الأميركيين والأحزاب المستظلة بإيران وبالسيستاني إلى التلاؤم بقدر الإمكان، والرضا بدورٍ هامشيٍ مع استمرار التذمر ومحاولات التمايُز غير البارز· ومنذ ما قبل الانتخابات وحتى الآن تقاسم هذان الحزبان السلطة والثروة والسلاح، وما اهتمّا بغير حشد الأنصار والمنافع، وأطاعا الأميركيين والإيرانيين في الوقت نفسه، وواظبا على رفع يافطة السيستاني كلما وجدا ذلك ضرورياً لجمع العامّة من حولهما في الأزمات· وهكذا ما عادت هناك مرجعيةٌ عراقيةٌ شاملةٌ من ضمن الأكثرية الشيعية· وبخاصةٍ أنّ شعار الفيدرالية ما اقتصر رفعُه على الأكراد، بل تنافس فيه وعليه كلٌّ من المجلس الأعلى وحزب الدعوة؛ إمّا استثارةً لغرائز العامة للاستئثار بالثروة باعتبار أنّ قسماً كبيراً من البترول العراقي هو في المناطق الشيعية، وإمّا تنافُساً في تغليب الهوية الخاصة (الشيعية) على العراقية والعربية الجامعة·
وكما كنا أيام صدّام حسين، نعذُر المعارضة الشيعية في بعض تصرفاتها غير المقبولة؛ كذلك أسرفنا في الاعتذار لهيئة علماء المسلمين والجمعيات السنية الأخرى في السنة الأولى من الاحتلال· قلنا أولاً إنه من المقبول أنّ يجتمع مشايخ السنة في هيئةٍ، ما دام الآخرون الداعمون للاحتلال أو المسالمون له يلتفّون (بمن فيهم المؤمن الكبير أحمد الجلبي!) من حول المرجعية الشيعية· وقلنا ثانياً إنه من المبرَّر ظهور زعامةٍ دينيةٍ سنية تتعاطى الشأن العامّ، ما دام السياسيون السنة مهمَّشين أو متهمين أو باقين خارج العراق· لكنْ، كما لم تستنكر المرجعيةُ الشيعيةُ عملاً من أعمال الاضطهاد والتصفية قام به المستظلوّن بها؛ فكذلك أعرضت هيئةُ علماء المسلمين عن التصدي لظاهرة الزرقاوي المصنوعة، ولم تتنبه إلى إمكان استخدام الانتحاريات ستاراً لفظائع الاحتلال، وللفظائع الطائفية المضادّة· وقد تكون المرجعية الشيعية، وقد تكون هيئة علماء المسلمين، أضعَفَ من التصدّي لتلك الظواهر الإجرامية البارزة؛ لكنه لا عُذْر لهما في الطابع الديني المُقْبِض الذي ساد في