أن يتحول مجتمع ما، تنظمه الحقوق وخاضع للقانون، إلى جسم سياسي أمر بديهي يدخل في إطار صيرورة انتقال المجتمعات من حال الطبيعة إلى حال الثقافة· وقد انتبه الفلاسفة إلى هذا النوع من التحول والتبدل منذ أيام أفلاطون الذي كان أول من ميز بين الطابع الاجتماعي للمجتمع في مرحلته المتطورة، وطابعه الطبيعي في التجمعات البدائية غير المنظمة، أو غير الخاضعة لقانون يضبط شؤون المجتمع وينظم العلاقات بين أفراده على أساس تراتبي· وقد شبه الفلاسفة القدماء الدولة بالإنسان الفرد واعتبروا أن بنيتها من بنية الإنسان نفسه حيث يأتي في مرتبة الرأس الذي يمثل العقل بالنسبة للإنسان طبقة الفلاسفة والحكماء من ذوي العقل الراجح والمقدرة الفكرية على إدارة شؤون الناس وتولي الحكم، وفي مرتبة الصدر الذي يختزن الشجاعة يقابله في الدولة طبقة المحاربين التي تكلف بالذود عن حياض الوطن، ثم تأتي البطن وهي موضع الشهوات، حيث يقابلها السواد الأعظم من الشعب· وبنفس الطريقة التي نصف بها الأشخاص على أنهم إما منساقون لهواهم وشهواتهم غير مبالين بالعواقب، أو أصحاب عقل يحكمون على الأمور بميزان الحكمة، فإن الدولة تنطبق عليها نفس الأوصاف فتكون إما خاضعة لعناصر عقلانية في شكلها الأرستقراطي، أو في شكلها التوسعي عندما يتولى العسكر الحكم، أو في شكلها الشعبوي حيث الجميع يشارك في الحكم من خلال النظام الديمقراطي·
غير أن هناك من الفلاسفة من نظر إلى الدولة في بعدها التاريخي وتطورها الزمني عاقداً الشبه بين الحياة الإنسانية وحياة الدولة· فالدولة حسب هذا الرأي تمر بنفس الأطوار من طفولة ومراهقة إلى نضج ورجولة؛ من مرحلة الملكيات المستبدة التي ترعب الشعوب باسم الإله إلى مرحلة النضج التي تتجاوز فيها الدول الملكيات إلى جمهوريات شعبية يتحرر فيها الفرد ليس فقط من تسلط النظام السياسي، بل يتحرر أيضا من سلطة الآلهة ليعانق الديمقراطية والعلمانية· غير أن هذه الصيرورة في حياة الدول والمجتمعات التي كثيراً ما شبهت بتطور الإنسان ذاته لا تتخذ في كل الأحوال منحى تصاعديا باتجاه التقدم في مسيرة وضعت خطواتها مسبقا، بل تتعرض تلك المسيرة للعديد من الهزات تجعل الدول عاجزة عن الاستمرار، وفي بعض الأحيان تشهد الأنظمة الديمقراطية نكوصا إلى الوراء وارتدادا عن المبادئ التي قامت عليها في مراحل تأسيسها الأولى· وكما أن الجسم الإنساني معرض للعلل والأمراض، فإن الدول والأنظمة، حتى تلك التي وصلت ذروة تطورها كما هو الحال بالنسبة للنظم الديمقراطية، تصيبها الأمراض وتتعرض للتقهقر والجمود مما قد يقوض مبادئها· وهي الأمراض ذاتها التي تسعى المؤلفة الفرنسية سينثيا فلوري في كتابها ''أمراض الديمقراطية'' إلى أن تدرسها من خلال الإشارة إلى الاختلالات الوظيفية التي تواجهها الديمقراطية كمفهوم وكآلية تطبيق سواء على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو الثقافية· وتستفيض المؤلفة في استعراض الاختلالات التي تلحق بالديناميكية الديمقراطية وتعيق تطور ما تسميه بـ''المؤسسات الحاضنة للحريات والمساواة''· وتنطلق سينثيا فلوري في البداية من الديمقراطية الفرنسية مسائلة لأسسها وراصدة لحالتها·
ولكن قبل أن تنفذ إلى دراسة الديمقراطية الفرنسية والأخطار التي قد تصيبها بالترهل والشيخوخة، قامت المؤلفة بدراسة الأسس النظرية للديمقراطية والأفكار التي قادت إليها عبر التاريخ، حيث أوغلت كثيراً في الماضي، إذ نجدها تارة تهتم بالأفلاطونية الجديدة عند العرب، وبخاصة في إشارتها لنظرية الإشراق عند السهروردي، وتارة أخرى نجدها تجري مقارنة بين الأفلاطونية عند الفرس والأوروبيين· لكن رغم استغراقها في القضايا الفلسفية، وابتعادها عن موضوعها الرئيس في الكتاب والمتمثل في دراسة أمراض الديمقراطية وعللها، إلا أنها تعتمد على خلفيتها الفلسفية لتقديم تحليل معمق عن العلاقة بين الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي، لتخلص إلى كيفية تعامل الجمهورية الفرنسية مع الإسلام، وكيفية تعاطي الديمقراطية الفرنسية مع المسلمين المتواجدين فوق أراضيها آخذة في الاعتبار الانتماء الثقافي والحضاري لكل فئة وكيفية فهمه لمفهوم الديمقراطية· ولعل أهم ما تنبهت إليه المؤلفة في الكتاب هو الاختلافات الموجودة بين الديمقراطيات مشيرة بالتحديد إلى ذلك الجدل الذي أثير في المجتمع الفرنسي على خلفية إقدام الحكومة على منع ارتداء الحجاب الإسلامي في الأماكن العامة باعتبار أن ذلك يتنافى مع المبادئ العلمانية· واللافت أن هذا الفهم للديمقراطية على أنها الضامن للعلمانية، حسب رأي الكاتبة، يختلف مع الديمقراطية البريطانية التي لا ترى في حرية ارتداء الرموز الدينية خطرا على المبادئ الديمقراطية· وترجع المؤلفة هذا الاختلاف ليس إلى خصوصية كل بلد فحسب، بل تطرح نظريتها الخاصة بالترهل الذي يلحق الديمقراطية في بعض جوانبها ويجعلها غير قادرة على التعاطي مع المستجدات· وتنتقد المؤلفة الثورة الفرنسية لسنة 1789 لأنها اتخذت من العنف الأهوج سبيلا لتحقيق أهدافها، حي