الكتاب الذي نقوم بعرضه في هذه المساحة هو:''الحرب العظمى من أجل الحضارات: غزو الشرق الأوسط'' ومؤلفه هو ''روبرت فيسك'' الصحفي البريطاني البارز، ومراسل صحيفة الإندبندنت في الشرق الأوسط، الذي غطى الكثير من الحروب والصراعات في المنطقة مثل الحرب الأهلية اللبنانية، والثورة الإيرانية، والحرب العراقية الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، ثم الحربين اللتين تخوضهما أميركا حاليا في المنطقة· وقد استخدم فيسك منظورا أخلاقيا وفلسفيا في كتابه هذا الذي يعد أهم الأعمال التي كتبها على الإطلاق· يقول فيسك في بداية كتابه إن جميع الصحفيين الذين عملوا في بلدان الشرق الأوسط الحافلة بالصراعات، والمسكونة بالمأساة والدم، قد أصابوا قراءهم بالإحباط وخيبة الأمل، وإن ذلك يرجع في رأيه إلى أن هؤلاء الصحفيين قد نجحوا في الإجابة على كل الأسئلة التقليدية التي تتعلق ببث الخبر وهي: من، وأين وماذا، ومتى·· ولكنهم نسوا ''لماذا''·
وهو ينصح كل صحفي يتوجه للعمل في منطقة الشرق الأوسط بأن يحمل معه دائما كتاباً للتاريخ، كي يرجع إليه ويفهم ما الذي أوصل الأحداث إلى النقطة التي وصلت إليها·· وكي يفهم كيف أن آثار الماضي عادة ما تكون مطبوعة على أذهان وذاكرات الناس هناك، وتدفعهم إلى العمل والسلوك بطريقة معينة·
وهذا الاقتناع لدى ''فيسك'' تعرض إلى محك عملي في الحقيقة· ففي عام 2001 كان ''فيسك'' موجودا في منطقة الحدود الأفغانية، عندما اتجهت نحوه جماعة من الأفغان الذين قامت الولايات المتحدة بقصف قراهم، وبدأوا في رميه بالحجارة، مما أسفر عن إصابته بشج عميق في رأسه جعله يسقط على الأرض وقد غطت الدماء وجهه، وبدا لمن رآها ساعتها، أنه لن ينجو من إصابته· ولكن فيسك استطاع أن ينهض، وأن يدافع عن نفسه· وفي غمار ذلك كله تذكر الرجل أنه يخوض معركة ضد نفس الأشخاص المحرومين المهمشين الذين طالما كان يكتب عنهم بروح التعاطف، والذين تقوم دولته بريطانيا الآن ودول أخرى غيرها بضربهم وقتل أطفالهم ونسائهم، كما أدرك أنه هو نفسه قد تحول إلى عدو في نظرهم· وتمكن فيسك من الهرب من الأفغان الغاضبين ولكنه توصل في تلك اللحظة إلى قناعة مؤداها أنه لن يكون قادرا على التعايش مع نفسه ما لم يقم بالتمسك بقناعاته وتفسير الأسباب التي جعلت الأفغان الغاضبين يقومون بمهاجمته·
لذلك يقدم فيسك في هذا الكتاب دراسة وافية عن البؤس الذي يعاني منه العالم الإسلامي، والمهانة التي يتعرض لها هذا العالم على أيدي الغرب في أكثر من مكان، وإصرار التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة على أن ''قوى الخير'' يجب أن تنتصر على ''قوى الشر'' بأية طريقة كانت حتى لو أدى ذلك إلى إحراق وتشويه المدنيين· ويعترف فيسك أمام قرائه بأنه لو كان لاجئا أفغانيا وتعرض لما تعرض له هؤلاء اللاجئون، لكان قد فعل نفس الشيء وهاجم الصحفي البريطاني بصرف النظر عن شخصيته·
والحقيقة أن الجهود التي يقوم بها فيسك لشرح وجهة نظر المسلمين هي التي تكسبه المزيد من الأعداء في دوائر الغرب، التي تنظر إليه على أنه رجل يحاول أن يجد العذر دائما لبعبع الغرب الأول أسامة بن لادن· فمن المعروف أن فيسك قد قابل بن لادن ثلاث مرات، مرة في السودان ومرتان في أفغانستان· والمقابلتان اللتان تمتا في أفغانستان تمتا بشكل جيد على الرغم من أن فيسك قال إن بن لادن حاول أن يجنده· ويرسم فيسك في هذا الكتاب صورة عن بن لادن تختلف عن الصورة التي تروجها وسائل الإعلام عنه·
ويقول فيسك عن بن لادن أيضا إنه مهووس بالتاريخ، وإنه يعتقد اعتقادا جازما أن التاريخ يعمل ضد الولايات المتحدة، وأن كراهية الولايات المتحدة تغطي الشرق الأوسط كله· ويخصص فيسك جزءا من الكتاب للحديث عن الأسباب التي دعته إلى ترك صحيفة ''التايمز'' اللندنية والانتقال إلى الأندبندنت فيقول إن ذلك يرجع إلى أنه كان قد كتب تقريرا خبريا عام 1988 عن قيام إحدى السفن البحرية الأميركية العاملة في الخليج العربي بإطلاق نيرانها على طائرة ''أيرباص'' إيرانية كانت تطير فوق مياه الخليج، مما أسفر عن سقوطها ومصرع ركابها وطاقمها جميعا وكان عددهم 290 شخصا· وفيما بعد قامت إدارة التايمز بتغيير بعض الفقرات والجمل وشوهت التقرير من خلال حذف فقرات كثيرة منه·· وأنه قد أدرك في ذلك الوقت أن ذلك حدث لأن ''مردوخ'' قد أصبح مالكاً للتايمز مما جعله يتخذ قراراً بترك الصحيفة التي عمل بها لمدة 18 عاماً كاملة، والتي يقول إنه كان يثق في محرريها وإدارتها ثقة عمياء، كي يتجه للعمل في صحيفة الإندبندنت حيث يكتب الآن· ويقول فيسك حول تلك التجربة:''عندما لا يتمكن الصحفي من إيصال الحقيقة كاملة غير منقوصة إلى قراء صحيفته فليس هناك ما يدعو بعد ذلك لاستمراره للعمل في مثل هذه الصحيفة، لأن الصحيفة في مثل تلك الحالات لا تصبح ناقلا أمينا للأحداث كما يفترض أن يكون دورها بل تتحول إلى شريك في صنع تطورات تلك الأحداث وطرفا فيها، وهو دور يتجاوز نطاق قدرتها''·
ويحاول فيسك على مدى صفحات الكتاب أن يقدم الحرب على أنها دراما إنسا