لأنهم خافوا على عروبة العراق وقلقوا على مستقبلها، وخشوا من تزايد النفوذ الإيراني، اجتمعوا وقرروا إيفاد الأمين العام للجامعة إلى بغداد، وأخيراً بدأ تحرك قطار العرب إلى بغداد، إثر تدخل الأمير سعود الفيصل الذي طالب العرب بسرعة التحرك لتدارك الوضع قبل فوات الأوان·
الجامعة العربية أرسلت وفداً برئاسة السفير أحمد بن حلي لاستطلاع الوضع والالتقاء بالشخصيات السياسية والدينية وممثلي الأطياف والطوائف العراقية، تمهيداً لزيارة الأمين العام، وبهدف تنظيم مؤتمر للمصالحة العراقية برعاية الجامعة العربية·
لقد تحرك العرب أخيراً لتقديم مبادرة عربية لتحقيق ما سموه ''مصالحة عراقية'' وسط شكوك كثيرة في جدواها وفي توقيتها وفي طبيعتها· ومهما يكن من أمر فإننا نتمنى نجاح المبادرة في تحقيق أهدافها، ولكن من حقنا أن نتساءل: أين كان العرب من إخوانهم العراقيين؟ ولماذا تركوا الساحة العراقية لغيرهم؟ لماذا غابوا حتى جاء من يستفيد من غيابهم ويملأ الفراغ ويكسب النفوذ والأنصار؟
أكثر من ثلاثين سنة، والعراقيون وبخاصة الشيعة والأكراد، يعانون من بطش النظام ويستغيثون بإخوانهم في العروبة، فلا مغيث، حتى إذا فاق التنكيل والاضطهاد كل احتمال وأرادوا الفرار حماية لأرواحهم وكراماتهم، تنكر العرب لهم ولم تتجرأ دولة عربية على إيوائهم، وحدها إيران احتضنتهم وآوتهم وقدمت لهم الملاذ والدعم المعنوي والمادي وكل المساعدات الإنسانية·
يشرح د· الرميحي طبيعة النفوذ الإيراني فيقول: ''التداخل العراقي- الإيراني، حصل بسبب طول لقاء المعارضة العراقية والطرف الإيراني على امتداد عشرات السنوات، وأصبح جزءاً من المصالح المشتركة بين القوى الجديدة والطامحة للحكم في العراق وقوى إيرانية· ومن المعروف أن بعض المحافظات المحاذية لإيران قد وقعت اتفاقيات إخاء مع المحافظات الإيرانية القريبة، كما أصبح الاقتصادان العراقي الجنوبي والإيراني متشابكين، وهذا التداخل الإنساني والثقافي واقع لا يمكن نكرانه''·
ولم يحاول العرب أن يلعبوا دوراً إيجابياً بعد سقوط صدام بل ازدادت جفوة العرب للعراقيين -ما عدا بعض المساعدات الإنسانية المقدمة من بعض دول الخليج- وأحجموا عن تقديم أي دعم، خضوعاً لمزايدات سياسية فارغة ترى في ذلك مداهنة لـ''الاحتلال'' أو دعماً له· بل إن مصر -الدولة الكبيرة والرائدة- خفضت بعثتها الدبلوماسية إلى أقل مستوى بسبب ابتزازات الأحزاب والتيارات السياسية·
هذه الجفوة الطويلة من جهة، إضافة إلى ما مارسه الإعلام العربي من دور تضليلي في حرب العراق، ودور تحريضي بعد سقوط صدام من جهة أخرى، وكذلك الخطاب الديني الطائفي لمشايخ السنة ضد شيعة العراق، والموقف السلبي لهيئات ومنظمات المجتمع المدني العربي من المنظمات العراقية، حتى أن اتحاد الكتاب العرب مازال مصراً على تعليق عضوية اتحاد كتاب العراق بحجة أن الاعتراف بهم، اعتراف بحكومة الاحتلال· كل هذه المواقف السلبية خلقت مرارات في نفوس العراقيين وزلزلت إيمانهم بـ''العروبة'' وشعاراتها، وشككتهم في مصداقيتها·
ولكن كما يقول صالح القلاب، إنه أمر طبيعي أن يمر شعب كالشعب العراقي الذي تعرّض على مدى نحو نصف قرن لأبشع مما تعرض له أي شعب من ويلات ومذابح وقمع ومصادرة، للحظة ضبابية، ولكنها لحظة عابرة·
ويعبر عن هذه المرارة، عبدالهادي الحكيم -عضو الجمعية الوطنية وعضو لجنة الدستور- فيقول: بلى، لقد عتب العراقيون كثيراً على أشقائهم العرب، حكومات وشعوباً ووسائل إعلام، وقديماً قال شاعرنا العربي:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
الآن: كيف تساهم الجامعة العربية في دعم العملية السياسية في العراق؟ كيف تساعد على حفظ وحدة العراق وسلامته؟ كيف تحقق ما سمته ''مصالحة وطنية''؟
إن أمام الجامعة العربية، رؤيتين متصارعتين للوضع العراقي، الأولى: رؤية الغالبية من الشعب العراقي التي تراهن على تطوير العملية السياسية، وقد أنجزت ما يشبه المعجزة خلال فترة زمنية قصيرة مقارنة بتاريخ شعوب مماثلة كاليابان وألمانيا وكوريا كما يقول شاكر النابلسي، وهي لا ترى في ''القوات الدولية'' إلا معينة وداعمة للعملية السياسية· وترى أن معاناتها إنما تكمن في قوى الإرهاب المتسللة والمتحالفة مع بقايا البعث والتي تستهدف قتل الأبرياء وضرب المصالح الحيوية بهدف جر البلاد إلى حرب طائفية وتخريب العملية السياسية·
وفي أول رد فعل على المبادرة، يقول ليث كبة: ''هناك في الخارج من يتصور أن مشكلة العراقيين أنفسهم، نحن لسنا بحاجة إلى مؤتمر مصالحة، نحن بحاجة إلى أن تقوم المؤسسات الدينية بنشر ثقافة تحرم هدر الدم العراقي وممتلكات الناس''·
هذه رؤية غالبية الشعب العراقي، أما الرؤية الأخرى، فهي رؤية لأقلية عربية سنية رافضة للعملية السياسية برمتها، بحجة وجود ''المحتل'' ولذلك لا تستطيع أن تتعايش متصالحة مع نفسها ولا مع الأغلبية، وتتكون من عناصر متناحرة تضم جماعة الزرقاوي وأتباع صدام وهيئة تسمي نفسها ''هيئة علماء السنة'' نصّبت