لم يكره الله الإنسان في الدين·· وأكره الإنسان الإنسان في كل مفاصل الحياة، فالتقنيات الإعلامية صارت تقنيات إخضاع، والإعلان التجاري الذي يباغت استرسال المشاهد عبر الفضاء، والذي يزيد من ألوان صفحات الصحف والتي تقبض على نظر الإنسان شاء أم أبى· إكراه حتى في رسم إيقاع حياتي واحد، شكل تعليمي واحد، ورأي واحد يصفق على الدوام، دون اعتبار لحسه الجمالي أو النقدي·
هذا السيل العرم من استدعاء لكل مخلفات الدراما وسذاجتها جعل فرصة هذا الحديث أن يُتداول بشكل يومي، فخبز الصائم تحول إلى شاشة فضائية متوحدة في حقائق سطوتها وتبحث فقط عن جني ما في جيوب المستهلكين الأفذاذ·
وكثيرون يستسلمون دون أدنى مقاومة لكل تفاصيل الحياة المغطاة بشكلها البلاستيكي المنمق بنظريات الإعلان التجاري·
وهذا ما انعكس بالضرورة الدامغة على فهم عمليات التعليم والفكر، فقد ماتت الفلسفة العربية حين تحولت الجامعات إلى مجرد مورِّد إلى سوق يحتاج لآلات بشرية لا تفكر ولا ترى ولا تسمع إلا أوامر تنفذ بصمت ودقة· والرسالة الإعلانية اختزلت المضمون الإعلامي الهادف، وجعلت البشر أدواتها الطيعة التي تحقق مآرب الفكر المادي لا أكثر·
وهذا ما يفسر ذلك الخضوع الاختياري، والمبالغ فيه، ولمتطلباته· فالجامعة التي فرخت الجريدة والإذاعة والتلفزيون وحتى المدرسة هي سجن كبير، أحكم الرقابة على المجتمع ووصلت إلى إنتاج أفراد موحدي الرأي والهدف وفي كافة التفاصيل·
لماذا نسيس كل شيء؟ سياسة عربية خاضعة، لم تستدرك أخطاء الماضي ولم تكن بمستوى الحكمة العربية المعهودة على مرّ أجيال طويلة من الحضارة البشرية·
وإلا فلماذا أفرغنا من هويتنا بكل هذه السهولة؟ ورغم استماتة البعض في التعلق بالمعنى العميق بالهوية وشكلها وحسها الثقافي، إلا أن التيار أقوى من أصابع متوحدة، والتسطيح الذي يستهدف الفكر صار غالباً على كل الأفكار، حتى البعد الإنساني الخالص للأحداث لم يعد له وجود إلا بمنظور الأقوى الذي لابد من طاعته والالتزام بنواهيه وعقابه·
ربما كانت مناسبة هذا الحديث، هذا الغرق في الدراما الساذجة التي استثمرت وقائع عربية لتصدر فكراً سياسياً آنياً لا يرى أبعد من التمسك بالكراسي وشاغليها·
وحين تعلق البعض بمسلسل تلفزيوني كقصة حياة نزار قباني فوجئوا بكمٍ من تفاصيل لا تعني إلا المثقفين والتلميح لأوضاع قائمة حالياً، وتصر الدراما على معاملة الجمهور كالقطيع·
حجم الأسى الذي تأتي به هذه الحكايات التي تدجن الفكر الحر وتحوله إلى مجرد إخضاع متناهٍ، يجعل الأمر برمته مقيتاً ومدعاة إلى مقاطعة هذه التفاصيل التي تسيء إلى هوية عربية تسعى إلى التحرر من ربقة التبعية لمنظومة ثقافية عالمية، وتحاول الدراما والإعلان جذبه إلى أسفل سافلين ليتم لهم تحقيق مآرب جبانة لا تعرف أن مثل هذه السذاجة مدعاة إلى السخرية أكثر من أي شيء آخر·
سيل لا يمكن إيقافه·· لكن تمكن مقاومته ببساطة متناهية حين تنفتح العقول لتيارات الحرية بعيداً عن الوصاية أو الوشاية أو وقت لا يعترف بضرورة الإدراك لعصر لا يعترف إلا بالأقوياء·