غالباً ما أقارن بين فخامة المساجد وتواضع المكتبة العامة في بلدي، الكويت· أرى الفخامة والبذخ والإسراف والتبذير في بناء المساجد، في حين أرى التواضع إلى حد المهانة فيما ينفق على المكتبات العامة أو المدارس· ولعل بناء المستشفيات في الكويت قد ساهم بعض الشيء في ترشيد الإنفاق الأهلي على المؤسسات العامة· ولذلك أتساءل دائماً لماذا ينفق المسلم الغني على بناء المساجد، ولا يهتم كثيراً ببناء مكتبة أو مدرسة أو مسرح للفنون؟ وأعتقد أن الإجابة بسيطة جداً: هناك مقابل أخروي حال بناء المسجد· في حين أنه لا يوجد مقابل في الآخرة لبناء مدرسة أو مكتبة·
هذا الاعتقاد الديني في مسألة الجزاء الأخروي برغم شيوعه لا يكفي لتبرير هذه الظاهرة، ولذلك أعتقد أن الأمر يعود إلى العقلية الشعبية المسلمة ذاتها· هذه العقلية التي لا تؤمن بحقوق الإنسان، ولا ترى في العلم المدني مزية تفوق فضل المساجد· هذه العقلية التي تتعامل مع الدين بمنطق الربح والخسارة· هذه العقلية التي لا تفكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)، بمعنى أن مسجد الإنسان يكون حيثما يسجد على أي بقعة من الأرض شريطة أن تكون طاهرة· لكن للأسف لا يهتم الأغنياء بهذا المعنى فيتنافسون في بناء المساجد الفخمة دون داع·
هؤلاء الأغنياء -كما يبدو من بذخهم في بناء المساجد- لا يفكرون كثيراً، كم عدد المسلمين الأميين، وكم طفلاً لا يجد مدرسة يتعلم فيها، وكم رجلاً أو شاباً لا يجد عملاً يحفظ كرامته، هؤلاء الأغنياء وللأسف الشديد، لا يهمهم كثيراً أن يتثقف الإنسان، وأن يقضي وقتاً في مكتبة لينهل من المعارف المختلفة، كما لا يهمهم تنمية الذوق الإنساني من خلال الفنون الراقية· في حين أنهم لو فكروا في المسجد لوجدوا أن المسجد لا يُستغل إلا بضع ساعات من نهار وليل هي أوقات الصلاة، وأن هذه المساجد الفخمة التي تحتاج إلى الصيانة والعناية غالباً ما تكون خالية أيام الصلوات العادية، خاصة في الصيف الحار·
هذه العقلية بحاجة إلى تغيير جذري بتحويل الإنفاق على المساجد إلى مجالات أخرى كالمدارس والمستشفيات والفنون والمكتبات· وها هم أثرياء الغرب لا ينفقون على بناء الكنائس، بل يتبرعون بالمليارات للأبحاث العلمية وبناء الجامعات والمتاحف والمكتبات والمختبرات العلمية وتمويل المشروعات الشبابية والأبحاث العلمية، وانظروا إلى الغرب كيف ينفق أثرياؤه تبرعاتهم الخيرية على التطور الإنساني في كل المجالات، ولا ينفقون فلساً واحداً على المجال الديني· بالطبع نحن لا نقول بذلك، لكن ''ما يحتاجه المنزل، يحرم على الجامع''، كما يقول المثل الشعبي، إذ لا يُعقل أن يكون لدينا ملايين الجوعى والأميين والعاطلين عن العمل والفقراء، وفي نفس الوقت تنفق الملايين على بناء المساجد، حتى الدين لا يرضى بذلك·
من واجب الأغنياء المساهمة في حل مشاكل المجتمع المدني، لكن لن يحدث هذا مع سيادة وهيمنة المتدينين على ما يسمى باللجان الخيرية· من واجب الدولة المعنية أن تجمع التبرعات الدينية من زكاة وصدقات، وكذلك التبرعات المدنية تحت مظلة واحدة يتمثل فيها كل أطياف المجتمع المدني، لضمان العدالة في توزيع هذه التبرعات، لكن بناء مسجد فخم إلى جانب مكتبة عامة متهدمة، أو مستشفى لا يجد أدوات طبية جيدة أو معاناة في نقص الأدوية، وشباب عاطل عن العمل، لهو الإسراف والتبذير الذي نهى عنه الدين، وتأباه الإنسانية، ويرفضه العقل·