القرار الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي بفتح باب المفاوضات مع تركيا بشأن انضمامها إليه، يعتبر نموذجاً للازدواجية والكذب السياسي في التعامل الذي قد تترتب عليه عواقب وخيمة في نهاية المطاف· وأرى أن النمسا كانت على حق عندما ضغطت باتجاه منح تركيا ''شراكة ممتازة'' بدلا من ''العضوية'' وهو أمر كان يمكن ترتيبه بسهوله· الذي يدعوني إلى قول ذلك هو أنه إذا ما قام الأتراك باستيفاء كافة متطلبات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي - بأمانة- فإنه من الصعب أن تقوم أووربا برفض انضمامهم إليها عندما يأتي يوم التصويت· ولكن نظراً لأن كل دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، تملك حق النقض ''الفيتو'' فيما يتعلق بتوسيع الاتحاد، فإن هذا الاحتمال يظل قائما· لذلك لم يكن من صالح أوروبا ولا من صالح تركيا أن يقوم قادة دول الاتحاد الأوروبي بتشجيع المحاولة التركية للحصول على عضوية الاتحاد، خصوصا وأن أوروبا لا تريد تركيا في حقيقة الأمر· ولكن لماذا لا تريد أوروبا تركيا؟ لأن تركيا دولة غير أوروبية· صحيح أن علاقاتها متداخلة بشكل وثيق في التاريخ الأوروبي، ولكن العناصر المكونة لأوروبا مستمدة من الحضارة الإغريقية والمسيحية اللتين ليس لتركيا علاقة بهما· ويستطيع البعض الادعاء بأن أتراك آسيا الوسطى هم الذين ساهموا في صنع أوروبا، ولكن هذا شيء مختلف· فعندما اندفعت الجحافل التركية إلى أوروبا عبر البوسفور في القرن الرابع عشر، فإنهم أزالوا من طريقهم الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) التي كانت في ذلك الحين أكثر رخاء وازدهاراً وتقدماً من مثيلتها الغربية· فالأتراك هم الذي أعاقوا اتصال بيزنطة بأوروبا الغربية في اتجاه التطور الذي قاد في النهاية إلى ''أوروبا الحديثة''· أما التوسع التركي في البلقان فقد تم إيقافه نهائياً أمام أسوار فيينا عام ،1683 وإن كان جنوب شرق أوروبا قد ظل تحت السيادة التركية حتى وقت ظهور الحركات القومية البلقانية في الأزمنة الحديثة· وهذا التاريخ يعطي المبرر لتركيا كي تشتكي من المعاملة التي تلقتها من أوروبا في القرن العشرين· فتركيا العثمانية كانت قوة أوروبية لمدة 500 عام كاملة، ولكنها كانت في نفس الوقت قوة استعمارية مقرها آسيا، وهو ما جعلها آسيوية الثقافة والدين· كذلك، كانت علاقة تركيا بالعرب علاقة غزاة بشعوب محتلة، وهو ما جعل القوميين العرب ينجحون في تحدي السيادة العثمانية في زمن الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى طرد تركيا من الجزيرة العربية وسوريا والعراق·
ومنذ ذلك الحين لم تعد لتركيا علاقات قوية مع العرب·
لذلك فإن الفكرة السائدة في بعض العواصم الأوروبية ومؤداها أن العرب ينظرون إلى تركيا باعتبارها نموذجاً للقدرة على التكيف الناجح مع الأعراف والتقاليد السياسية الأوروبية تعتبر فكرة يحوطها الشك· فحكومة كمال أتاتورك كانت حكومة سلطوية وبرلمانية في ذات الوقت، وقامت بفرض نظام علماني عام وصارم (وهو النظام الذي يفرضه الجيش التركي بالقوة اليوم)·
علاوة على ذلك رأى أتاتورك ضرورة فصل الدين عن الدولة، كما قام بإلغاء الخلافة عام ،1928 ومنح النساء حق التصويت عام ·1934 ومع ذلك كله فإن الحزب الحاكم في تركيا اليوم هو حزب ذو جوهر إسلامي أصولي· ليس هناك شك في أن أوروبا قد أفادت تركيا فائدة كبرى· فتركيا وفي سبيل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، قامت بالموافقة على شروط الانضمام مما أتاح لها، أن تحقق تقدماً هائلاً في التنمية الاجتماعية والحريات المدنية قبل بدء مفاوضات انضمامها للاتحاد· ومن الناحية الأخرى: هل يمكن لتركيا أن تكون مفيدة لأوروبا؟ من الناحية الظاهرية قد يبدو أنها غير مفيدة· فالاتحاد الأوروبي لا يحتاج إلى عضو جديد يبلغ عدد سكانه 68 مليون نسمه ولا يزيد نصيب الفرد فيه من الدخل القومي الإجمالي عن 6,390 دولارا وهو ما يعادل ثلث نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي في بلاد مثل البرتغال ومالطا· وإذا ما أخذنا معدل الزيادة في عدد السكان في تركيا في الحسبان، فسوف ندرك أن تركيا ستصبح أكثر دول الاتحاد الأوروبي سكاناً، وبالتالي صاحبة أكبر تمثيل برلماني فيه، والدولة التي ستشكل أكبر ضغط ممكن على صناديق التنمية في الاتحاد· كما أن تركيا ستجلب معها تاريخاً من الحكم العسكري المتقطع، وقدراً كبيراً من عدم الاستقرار، خصوصاً إذا ما عرفنا أنها تقع في منطقة ذات جوار مضطرب، يحتمل أن يصبح أكثر اضطراباً في العقد القادم عندما تبدأ آثار السياسة الأميركية في المنطقة في التكشف· وبقيامهم بتشجيع تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فإن القادة الأوروبيين - ومثلما فعلوا فيما يتعلق بموضوع التصويت على الدستور- قد ذهبوا إلى أبعد مما يريد الجمهور الأوروبي· وهم فعلوا ذلك منطلقين من قدر مفرط من النوايا الحسنة، ومدفوعين بضغوط أميركية عبر عنها خير تعبير تصريح لمعلق أميركي يحبذ ضم تركيا للاتحاد لأن ذلك ''سوف يؤدي إلى تقليص خطر توجه تركيا شرقا··· أي إلى معسكر الأعداء سواء في حرب الحضارات الجارية حاليا