مع الحدث الأعظم الذي اجتاح العالم في بداية العِقد الأخير من القرن العشرين، والذي تمثل بنشوء النظام العالمي الجديد الذي اعتبره توماس فريدمان عملية ''أمركة'' للعالم، يبدو الأمر وكأن العرب بوغتوا على حين غرة· فهم -في طلائعهم من المثقفين والفاعلين في الثقافة السياسية وغيرهم- يقفون بدهشة ودون حراك، يتساءلون عما حدث وعما سيكون موقفهم منه· وراحت أطراف من تلك الطلائع تعلن أنها كانت قد نبهت إلى الحراك العالمي الذي يعيش العرب خارجه، وإلى أن النظام السياسي العربي الراهن أسهم -بدرجة كبرى- في تدمير البنى الاجتماعية السياسية والاقتصادية والثقافية العربية، عبر تكريسه الاستبدادي الرباعي القائم على الاستفراد بالسلطة وبالثروة وبالإعلام وبالحقيقة· ووضح شيئاً فشيئاً أن ذلك النظام -خصوصاً ببعض تجلياته القُطرية- هو الذي يمثل الخطر الحقيقي على الشعوب العربية ومستقبلها· فالمراوغة والمناورة والمكابرة هي العناصر الكبرى، التي تضبط السمات الكبرى للحالة المذكورة، مع الإشارة إلى أن هذه العناصر تدخل في حساب مصطلح أوّلي يشتغل عليه النظام العالمي المعني، وهو ''اللعب'' على الأميركيين تخصيصاً·
إن ''نظرية اللعب''، التي مارست دوراً ملحوظاً في العلاقات الدولية قبل نشأة النظام العالمي الجديد، بدأت تكف عن ممارسة هذا الدور مع ظهور هذا الأخير· ومن ثم، فرهانات العلاقات بين الدول تضاءلت -إلا قليلاً- في هذا الحقل· لكن البلدان العربية تظل -بمعظم مرجعياتها السياسية- تتنكر لهذه الواقعة في سياق حالتين اثنتين، هما رفض الشعوب العربية بمثابتها رهاناً محتملاً على إنجاز مهمات الإصلاح الوطني الديمقراطي، وإبقاء الخارج (الفرنسي) أحياناً و(الألماني) أحياناً أخرى و(الصيني) أحياناً ثالثة بوصفه بوابة إلى ''العملاق الأميركي'' بهدف تهدئته وتلطيفه أو -على الأقل- جعله يغض الطرف في موقفه من الدواخل العربية· إنها، حقاً، لعبة قط وفأر: ''قط'' يحذّر -نفاقاً وبصيغة كلمة حق يُراد بها باطل- من التقاعس في القيام بإصلاح ديمقراطي يجتث ''جذور الإرهاب والتخلف'' في العالم العربي، و''فأر'' يرفض التعامل مع داخل هذا العالم من باب استصغار أهميته أو الخوف منه، إذا طرح مساءلاته عليه حول السلطة والثروة والرأي العام والحقيقة· وفي كلتا الحالتين (القط الأميركي والفأر العربي)، تظل الضحية واحدة: الشعوب العربية·
وإذا خصصنا الأمر أكثر، لاحظنا أن تراجع نظرية اللعب المذكورة يعود إلى عوامل عينيّة متعددة، يبرز منها الإثنان التاليان، الأول هو تراجع ''السياسة'' في النظام العالمي الجديد إلى وراء، وبروز ''الحرب'' بوصفها الطريق الأمثل إلى حل الخلافات والصراعات في العالم، أو تحديداً وتخصيصاً بين الولايات المتحدة الأميركية والعالم· وعلينا أن نلاحظ أن في هذه الفكرة يكمن خط ناظم حاسم بين مرحلتين في تاريخ الاستراتيجية العسكرية والعلم السياسي· أما المرحلة الأولى منهما فيعبر عنها المبدأ السياسي العسكري الشهير، الذي صاغه كلاوزفيتش على النحو التالي:
الحرب إنما هي امتداد للسياسة بأدوات أخرى! ومن ثم، فإن الحروب كانت -في الغالب الأعم- امتداداً للصراعات السياسية وإجابة عنها·
أما العامل الثاني في تضاؤل نظرية اللعب في العلاقات الدولية (العولمية) فيتمثل في ما يمكن التعبير عنه بمصطلح ''الانكماش الثلاثي''· وهذا الانكماش يظهر في ثلاثة حقول، هي الزمان والمكان والحدود·
وفي هذا المنعطف الأكثر خطورة وإشكالية في التاريخ العالمي والعربي، تغدو مثل الأسئلة التالية ''واجباً وطنياً وقومياً وأخلاقياً'' إضافة إلى أنها تغدو ''فرض عين'' بالاعتبار الديني: ما الذي يسعى العرب إليه في سبيل التعامل مع تلك التحديات؟ وبكيفية مخصصة تمسّ البلد العربي المرشح الآن لعملية اجتياح أو ابتلاع، وهو سوريا، يطرح السؤال التالي نفسه ربما في اللحظة الأخيرة: لماذا لا يبدأ المسؤولون هناك بتطبيق استحقاقات الإصلاح الوطني الديمقراطي، التي يقف المجتمع السياسي وإعادة بنائه ديمقراطياً في مقدمتها؟